Monday, October 8, 2012

الكاهن في التاريخ - الجدل الهابط والصاعد للعقل وللأمم



الكاهن في التاريخ
الجدل الهابط والصاعد للعقل وللأمم



الكاهن في التاريخ
الجدل الهابط والصاعد للعقل وللأمم
كانت الجغرافيا شاسعة بلا تخوم ولا ملامح سوى الفضاء الفسيح الموحش، لا شيء فيها سوى الإنسان الأول والوحوش الضارية، لا سلاح يدافع به عن نفسه، ولا درع يحميه من أعدائه، ولا حصون تصد عنه السباع.. فقط جسده العاري وكهف مظلم يسكنه، ومواجهة مكشوفة مع قوى تفوقه في كل شيء..
لو نام في كهفه خوفا من الوحوش؛ لمات جوعا، ولو خرج ليبحث عما يقيم الأود؛ لامتلأت نفسه خوفا ورعبا.. ليس خوفا من الوحوش ولكنه الخوف من الموت..
كان الموت أول التجارب الوجودية وأقساها على نفس الإنسان الأول، قبل عشرات الآلاف من السنين، كان أول تحدٍ يواجهه مع الطبيعة التي تتجاوز سلطان قوته وخبرته ومعرفته، فتساءل كثيرا: كيف يواجهها؟ وكيف يسيطر عليها؟ وكيف يسخرها لتلبية مطالبه وحاجاته المادية البسيطة؟
هذه التساؤلات، وتلك التحديات طرحت نفسها على الإنسان البدائي قبل أكثر من مائة ألف عام، فيما يعرف تاريخيا وإنثروبولوجيا بالعصر الحجري القديم، أو عصر الباليوليت، وكان إنسان هذه المرحلة معروف باسم "إنسان النياندرتال" آخر الأشكال المورفولوجية (المورفولوجي هو البناء التشريحي لجسم الإنسان) التي تطور عنها شكل إنسان العصر الحجري الحديث قبل عشرة آلاف عام من الميلاد تقريبا، والذي استمر حتى يومنا الراهن مع بعض التطورات غير الجذرية في البنية التشريحية لجسم الإنسان.
هذا الإنسان البدائي الأول لم يعرف دينا ولم يكن له معبد ولم تثبت الحفريات وجود آلهة يتعبد لها، على غرار الآلهة الوثنية في الحضارات اللاحقة، وكل ما أثبتته حفريات هذه المرحلة أن ذلك الإنسان عرف السحر والسحرة وكان السحر يستخدم لتلبية حاجات مادية محضة، تساعد البشر – فيما هم يتصورون – على مواجهة قوى الطبيعة العمياء.
ولكن مع اكتشاف الإنسان للزراعة وظهور عصر المعادن، اختلف المشهد كلية، فالإنسان لم يعد يكابد الطبيعة ويصارع الوحوش لكي يحصل على طعامه وغذائه، بل أصبح هناك وفرة في الطعام واستقرار في المكان؛ فهدأت الروح واطمأن القلب وظهرت مساحة جديدة للعقول والأفئدة، يفكرون عبرها فيما هو أبعد من هذه الحياة المادية الصارمة.
كانت الحضارة السومرية، التي جاءت في أعقاب المرحلة السابقة، هي بداية التاريخ، ففي سومر ظهرت الكتابة لأول مرة، وظهرت المبادئ الدينية والروحية العميقة، والأساطير، والتراتيل، والأناشيد، والقوانين والتشريعات، وظهرت المعابد في كامل بهائها وبنيانها وفي داخلها يقبع الكاهن الذي يرأس نفرا من الكهنة الأصغر منه، ينظمون للناس شؤون الحياة ويفسرون لهم أسرار الوجود، ويباركون لهم سلطة الملوك، ويضمنون لهم رضا الآلهة ويرهبوهم بسخطها.
كانت سلطة الكهنة حتى هذه المرحلة سلطة مطلقة، لا ناظم لها سوى الكهنة أنفسهم، وصراعات القوى وتحالفات المصالح، وظهرت العلاقة بين الدين والسياسة في أشرس أشكالها، وبتطور الحضارات في الشرق تطورت الأفكار واتسع الخيال وظهرت أساطير الخلق والتكوين وتعقدت معها طقوس العبادة وازدادت المعابد بصورة كبيرة جدا مما خلق مساحة أكبر للكاهن وسطوة لا يضاهيها سلطة سوى سلطان الحاكم نفسه الذي وصل إلى حده الأقصى في التعقيد الديني مع الحضارة المصرية القديمة عندما أصبح الملك هو الإله نفسه.
لقد عرفت القرى الصغيرة في عصر الزراعة المعابد ولكنها كانت صغيرة الحجم وصغيرة الشأن معا، وبعد تشكل المدن الكبرى، في بلاد ما بين النهرين، منطقة العراق وسوريا وفلسطين، ظهرت المعابد الكبرى سامقة شامخة في أعلى مركز للمدينة لتناطح القصر الملكي جنبا إلى جنب، في إشارة قوية إلى العروة الوثقى التي تربط بين الكاهن (سيد المعبد) والملك (سيد القصر)، ففي هذه المرحلة – التي بدأت في الظهور مع الحضارة السومرية ووصلت لحدها الأقصى مع حضارة مصر القديمة – أصبح عدد المعابد والكهنة بالآلاف، فقد وصل عدد الكهنة في واحد من المعابد السورية عام 2600 قبل الميلاد تقريبا إلى أكثر  من 700 كاهنا، وفي عهد الملك البابلي نبوخذ نصر، وصل عدد المعابد إلى ما يقارب الستين معبدا، أي أن الكهنة قد صاروا بالآلاف، باختصار أصبح الكهنة في وقت مبكر وسابق على ظهور الأديان السماوية، مجتمعا كاملا داخل المجتمع، يحظى بكل السلطة والنفوذ والدعم الملكي التام.
أسهمت هذه الحياة الكهنوتية في إثراء الخيال الديني، فكتبت الأساطير كتابة دقيقة ونسقية، وظهرت الطقوس والشعائر الدينية، من قرابين وصلوات ودعوات ومحاولات استرضاء للآلهة الأسطورية، من أجل مباركة الزرع وحماية الولد وترويض الطبيعة والوقاية من المرض وهزيمة العدو، وكان كل ذلك يتم عبر طريق وعرة طويلة باتجاه المعبد القائم في مكان قصي من المدينة، ويسكنه الكاهن الأعظم مالك الأسرار وحامي الحمى والديار، هكذا لم يكن بعد هذه السلطة التي يتمتع بها الكاهن سلطة أخرى ولا حتى سلطة الملك نفسه، وهو الأمر الذي جعل ملوك مصر ينصبون من أنفسهم آلهة ليجمعوا معا السلطتين الدينية والدنيوية ويأمنون غدر الكهان ومكرهم.
وبعد أن وصلت الحضارة المصرية القديمة إلى حدها الأقصى في التطور الديني والسياسي والعسكري والتكنولوجي، تكف عن العطاء لحين من الدهر، وينتقل ثقلها إلى بلاد الإغريق القديمة، لتظهر آلهة الشرق على جبال الأوليمب ولكن في رداء جديد كلية، فرغم أن تسلسل الآلهة وأنسابها كان مشابها إلى حد التطابق مع أساطير الشرق، ورغم أن وظائف وصفات الآلهة كانت مشابهة إلى حد بعيد مع آلهة الشرق، إلا أن تحولا جذريا حدث لهذه الآلهة في الأساطير اليونانية، فلم تعد آلهة الأوليمب، وكبيرها زيوس، آلهة كهنوتية مرعبة ومطلقة الرغبة والقدرة مقابل الإنسان، بل اصطبغ الإنسان بهالة مقدسة واتسم الإله بطبائع إنسانية، فآلهة اليونان القديمة كانت تخون وتحب وتكره وتغضب وتتصارع وتتحدى البشر وتدخل معهم في صراعات ندية، وكان البشر يتحدون الآلهة ويصبحون أنصاف آلهة ويهزمون الآلهة أحيانا، هذه الروح الإنسانية التي وسمت الأساطير اليونانية والتي يمكن أن نجدها بوضوح في الإلياذة والأوديسة لشاعر الإغريق الخالد هوميروس، كان لها دور حاسم في اختفاء سطوة الكاهن وسيطرته على مصائر الناس، فظهرت الفلسفة لأول مرة في تاريخ البشرية على يد أهل اليونان قبل 500 عام من الميلاد.
ورغم أن العلاقة بين إشراق العقل وأفول الكهنوت التي ظهرت بقوة في بلاد اليونان لا تحتاج إلى دليل – في نظرنا على الأقل – فمن الضروري التأكيد على أنها علاقة على درجة عظمى من الأهمية وتستحق كثيرا من البحث والنظر والتأمل، لا سيما إذا حولنا دفة الحديث ناحية المشرق مرة أخرى وتحديدا في شبه الجزيرة العربية عندما ظهر الإسلام بعد فلسفة اليونان بحوالي عشرة قرون تقريبا.
فالإمبراطورية الإسلامية لم تبدأ في انتشارها شرقا وغربا إلا مع الخليفة عمر بن الخطاب، أحد أبرز الصحابة في إعمال العقل، وأحد أشهر رموز العدل الإسلامي عبر التاريخ، فلم يكن عمر يتصرف ككاهن أبدا، ولكنه كان "إنسانا" حتى وهو أمير المؤمنين، كان يحمد الله أن في أمة محمد من يقوم اعوجاج عمر إذا أخطأ، فهل كان الكاهن القديم الذي يسكن قرب السماء يفعل ذلك؟ بالقطع لا، لأن الكهنة يلهبون العاطفة ويطفئون معها نور العقل والمعرفة.
واتسعت رقعة المد الإسلامي وأصبح منارة للعالم وبلغت أوجها في عهد المأمون الذي كان يعطي وزن الكتاب المترجم من اليونان وغيرها ذهبا لمترجمه، فقدم الإسلام لنا الخوارزمي في الجبر والفلك، وابن النفيس والرازي وابن سينا في الطب، وابن الهيثم في البصريات، والكندي والفارابي وابن رشد في الفلسفة، وغيرهم الكثير، حتى سقط العقل مرة أخرى بسقوط ابن رشد ومع هذا السقوط الذي كان بيد الكهنة – مرة أخرى – سقطت الحضارة الإسلامية وخرج المسلمون من الأندلس ولم يظهر حتى هذا الوقت فيلسوف واحد أو مفكر كبير بحجم مفكري الإسلام الأوائل، وكان ابن خلدون مجرد استثناء للقاعدة وتأكيد على أن سقوط العقل لا يعني سوى سقوط الحضارة.
وعندما يسقط العقل في مدينة يسقط معه كل شيء؛ الحضارة والقوة والحكمة والمعرفة والنفوذ والعلم والإنسانية برمتها، عندما يسقط العقل يجد الكهنوت مساره السهل تجاه المشاعر والعواطف والأفئدة فيستبدون بها شر استبداد، ويحتكرونها لأنفسهم، يحشدونها وقتما يشاءون ويفضون حشدها عندما يأمرون، وقد عبر الشاعر الكبير الراحل صلاح عبد الصبور عن هذا المشهد في مسرحيته "مأساة الحلاج" عندما اغتالته السلطة بدعم من العامة والرعاع؛ حيث كتب يقول:
"أعطوا كل منا دينارا من ذهب قاني
قالوا صيحوا زنديق كافر
فصحنا زنديق كافر"
وقُتل الحلاج بفضل تأليب الكهنة للسلطة عليه، كما قتل بعده العشرات بفضل هذا الاستغلال لمشاعر العامة التي عطلت عقلها فكرا كما عطلت قلبها إيمانا ودينا، ولم ينتج هذا التراث للأسف سوى عقول غائبة وضمائر مشوهة وقلوب عليها أقفالها، أقفال صنعتها عقول خبيثة وأغلقتها قلوب لا تعرف سوى الكراهية، فماذا يمكن أن ننتظر من قلوب وعقول هكذا يكون حالها؟ وكيف يمكن أن تسهم هذه العقول في رفعة دين أو نهضة أمة أو صيانة كرامة، وكيف نتصور قلبا لم يعد ينبض إلا بكراهية الآخرين، ويجعل من نفسه الضحية دائما وهو يردد بعصبية وتشنج وصراخ وعويل: المؤامرة المؤامرة المؤامرة..
إنها حقا مؤامرة صنعها نفر من الانتهازيين والحمقى وأصحاب المصالح بمشاركة الأعداء أنفسهم، فدعونا نجني اليوم ما اقترفته أيادي الآثمين.. أيادينا نحن لا أحد سوانا.

 بقلم  ابراهيم طاحون

 

No comments:

Post a Comment