Monday, October 15, 2012

مسارات متقاطعة - كبَّر دماغك - إبراهيم طاحون


مسارات متقاطعة
كبَّر دماغك
إبراهيم طاحون
تفاجئنا العامية العربية بتعبيرات مجازية يعجز عن نحتها الأدباء، فتوجز في جملة واحدة ما تعجز عن وصفه المقالات الطوال. والتعبيرات العامية المقصودة هنا تختلتف عن الأمثال الشعبية، التي تتسم بالقدم وأحيانا كثيرة نجهل مصدرها وتاريخها وقائلها، أما التعبيرات العامية فرغم أنها تشترك مع الأمثال في عدم معرفة قائلها إلا أنها تكون وليدة لحظة زمنية معينة وغالبا ما تكون هذه اللحظة معروفة للمعاصرين لها.
مصطلح "كبَّر دماغك" هو تعبير شعبي مصري ظهر في عصر الانفتاح الذي بدأه السادات، وهو العصر الذي انفتحت فيه كل الأشياء "السلبية" على بعضها البعض، فاختلط الحابل بالنابل، وغمر الطالحُ الصالحَ، وتراجعت الطبقة الوسطى المثقفة لتفسح المجال للسباكين والزبالين والتجار وأصحاب الحرف ليصنعوا مصطلحات المرحلة وتعبيراتها.
غير أن الحقب الزمنية تنتهي بحلوها ومرها ولا يتبقى منها سوى القادر على البقاء، وفي هذا العصر الذي نعيشه، والمرحلة التي نمر بها ندرك مدى عمق هذه الكلمات التي ظهرت في ظروف زمنية مختلفة وبدلالات متباينة، فكم أحوجنا نحن المصريين اليوم "لتكبير أدمغتنا"، ليس بمعنى التجاهل واللامبالاة ولكن بمعنى الاحتواء وقبول الآخر.
إن الدماغ البشري هو الإناء الذي تتقاطع فيه كل الأشياء والأفكار والانفعالات البشرية، الحب والكراهية، التسامح والتعصب، الاعتدال والتطرف، السلام والحرب، الأمل واليأس، الشجاعة والجبن، القبول والرفض.. كلها أضداد تتلاقى وتتقاطع في الدماغ، وكلما كان هذا الدماغ "كبيرا" وحرا كلما استقر فيه الجانب الأول من الأضداد السابقة، وكلما كان "منغلقا" وتابعا استقر فيه الجانب الثاني.
إن الدماغ البشري كالثقافة تماما، كلما اتسعت آفاقهما؛ كانا أكثر قدرة على البقاء والاستمرار والانتشار على أصعدة مختلفة، فالثقافة الشعبية لقبيلة من القبائل في الصحاري والبوادي لا يدركها أو يعلمها أحد وذلك لأنها ثقافات منغلقة على ذاتها وقاصرة على أهلها، كما أنها لا تعلم شيئا عن الثقافات الأخرى وذلك للسبب ذاته، ولهذا فإن أهل هذه القبائل لا يقبلون الآخرين ولا أفكارهم ولا ثقافاتهم ولا عاداتهم لأنهم معزولون عن العالم بعد أن ضيقوا نطاقه ليشمل قبيلتهم فقط.
هكذا هو حال الدماغ تماما، كلما ضيَّق من حدوده بحيث لا يقبل إلا بما فيه من أفكار، ولا يحترم إلا ما فيه من معتقدات ومذاهب، ولا يمارس إلا ما يؤمن به من طقوس وعادات؛ كلما أصبح معزولا ومنعزلا، كارها ومكروها، جاهلا ومجهولا.
اليوم ما أحوجنا إلى "أدمغة" لا تمت إلى "القبيلة" بصلة، بل تشبه المدن الكونية الكبرى التي لا تسأل عن غرباء يدخلونها ولا تهدد بترحيل الأجانب عنها ولا تدين من يحمل جنسيات غير جنسيات أهلها.
نحتاج إلى "دماغ" كبير بعمر التاريخ وواسع بحجم الجغرافيا، "دماغ" حر كالموسيقى ومتنوع كالألوان وناصع كالثلج الأبيض وشفاف كالماء الزلال.

إبراهيم طاحون

No comments:

Post a Comment