Thursday, October 18, 2012

مسارات متقاطعة - التعليم - إبراهيم طاحون


مسارات متقاطعة
إبراهيم طاحون

التعليم (2)
بالعلم والمعرفة وحدهما تنهض الأمم، هكذا كان الحال في أول حضارة تاريخية عرفتها البشرية وهكذا صنع المصريون القدامى عظمتهم، وهكذا اخترع اليونانيون الفلسفة وصدرَّوا الحضارة لكل أوروبا حتى اليوم، وهكذا اتسعت الإمبراطورية الإسلامية واستمرت زهاء ثمانية قرون، وهكذا – أخيرا – تمكن الأوروبيون من التفلت من سيطرة عصور الظلام وصنعوا حضارتهم التي وحدتهم اليوم في كيان سياسي واحد واتحاد اقتصادي واحد وتحالف عسكري واحد؛ ذلك كله بعد قرون من الحروب والصراعات والكراهية.
أما في عالمنا العربي فليس ثمة كلام عن تجربة حديثة صنعتها العلوم والمعارف اللهم إلا تلك التجربة التي دشنها محمد علي باشا في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كان قد أرسل البعثات التعليمية إلى الدول الأوروبية المتقدمة، وفي الوقت الذي بدأت فيه النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر واستمرت حتى يومنا هذا، أي أكثر من أربعة قرون، لم تستمر النهضة التي أرسى قواعدها علي باشا، بل هناك من المؤرخين من يرى أنها لم تبدأ من الأساس وكانت محض محاولة سعى علي باشا خلالها لوضع أساس يمكن أسرته من حكم مصر وهو ما نجح فيه فعليا على مدار ما يزيد عن قرن من الزمان.
وهذه المفارقة تفتح لنا مجالا مهما للتساؤل: لماذا نجح المشروع الأوروبي القائم على العلم والمعرفة والتعليم بصورة عامة بينما فشلت كل محاولة عربية تسعى إلى إقامة النهضة على التعليم، كما هو الحال مع رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وانتهاء بالدكتور طه حسين؟
الإجابة عن هذا السؤال تبدو مستحيلة في هذا المقام، لأنها تحتاج إلى مجلدات يتوفر على كتابتها جيش من الباحثين والمفكرين والمؤرخين... إلخ، ولكن ما يمكننا الإشارة إليه في مقامنا هذا أن التعليم يفشل في أمة وينجح في أخرى لأنه يتقاطع مع حفنة من القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وكلما كان هذا التقاطع تقاطعا منسجما و"إنسانيا" كانت النتائج مثمرة وكلما كان منقوصا ومعطى من سلطة خارجية كان مشوَها ومدمِرا.
التعليم في العصور الأوروبية الحديثة تأسس على الانقطاع عن الماضي، سواء كان هذا الماضي فلسفات قديمة أم كان أساطير وديانات وتقاليد، واحتل التعليم مكانة مميزة في أعمال فلاسفة النهضة والتنوير، أما التعليم في العصور الإسلامية فقد تأسس على التواصل مع الماضي الأوروبي واليوناني، وهو ما يمكن ملاحظته في عملية الترجمة التي ازدهرت في عصر الخليفة العباسي المأمون ولكنها في الحقيقة بدأت قبله بكثير، ورغم الاختلاف الجوهري بين النموذجين القائمين على قبول الماضي ورفضه، إلا أن ما جمع بينهما هو شيء واحد: إقامة الحضارة على المعرفة المستمدة من العقل القادر على الاحتواء.
إن العقل هو ذلك الكيان القادر على قبول كل الآخرين، أو على الأقل فهمهم، فهو أشبه ما يكون بدائرة كبيرة لها حدود وآفاق ولكنها دائرة مزودة بفتحة جانبية تأبى الانغلاق على نفسها وتسمح لكل الآخرين بدخولها أو الخروج منها والأهم من هذا وذاك رؤية الآخرين من الداخل إلى الخارج والعكس بالعكس.
لكي نجعل من العلم والمعرفة وسائل للنهوض لا بد من وعاء لهما وهذا الوعاء هو التعليم شكلا والعقل مضمونا، وهما جزءان لا ينفصلان بل يمتزجان معا امتزاجا يستحيل انفصامه.

إبراهيم طاحون

No comments:

Post a Comment