Thursday, March 1, 2012

الدولة والثورة - فلاديمير لينين

الدولة والثورة - تعاليم الماركسية حول الدولة، ومهمات البروليتاريا في الثورة 
فلاديمير لينين


مقدمة الطبعة الأولى
في الوقت الحاضر تكتسب مسألة الدولة أهمية خاصة سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية السياسية. فالحرب الإمبريالية قد عجلت وشددت لأقصى حد سير تحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية. والظلم الفظيع الذي تقاسيه جماهير الشغيلة من قبل الدولة التي تلتحم أوثق فأوثق باتحادات الرأسماليين ذات الحول والطول يغدو أفظع فأفظع. والبلدان المتقدمة –ونقصد «مؤخراتـ»ها- تتحول بالنسبة للعمال إلى سجون عسكرية للأشغال الشاقة.
إن الأهوال والنكبات المنقطعة النظير، الناجمة عن الحرب التي تستطيل، تجعل الجماهير في حالة لا تصدق وتشدد سخطها. إن الثورة البروليتارية العالمية تتصاعد بصورة بينة. ومسألة موقفها من الدولة تكتسب أهمية عملية.
إن عناصر الانتهازية التي تراكمت في غضون عشرات السنين من التطور السلمي نسبيا أنشأت تيار الاشتراكية-الشوفينية السائدة في الأحزاب الاشتراكية الرسمية في العالم بأسره. وهذا التيار (بليخانوف، بوتروسوف، بريشكوفسكايا، روبانوفيتش، ثم المقنعون بقناع شفاف، السادة تسيريتيلي، تشيرنوف وشركاهما في روسيا؛ شيدمان، ليغين، دافيد وأضرابهم في ألمانيا؛ رينودل، غيد، فاندرفيلده في فرنسا وبلجيكا؛ هايندمان والفابيون في إنكلترا، وهلم جراً وهلم جراً)، وهو الاشتراكية قولاً والشوفينية فعلاً، يتميز بكون «زعماء الاشتراكية» يتكيفون بذلة وحقارة ليس فقط وفق مصالح برجوازيتـ«هم» الوطنية، بل، وعلى وجه الدقة، وفق مصالح دولتـ«هم»، إذ أن أكثرية ما يدعى بالدول الكبرى تستثمر وتستعبد منذ زمن طويل جملة من الشعوب الصغيرة والضعيفة. وما الحرب الإمبريالية سوى حرب من أجل اقتسام وإعادة اقتسام هذا النوع من الغنيمة. والنضال من أجل تحرير جماهير الشغيلة من نفوذ البرجوازية بوجه عام والبرجوازية الإمبريالية بوجه خاص يستحيل بدون النضال ضد الأوهام الانتهازية بصدد «الدولة».
في البدء سننظر في تعاليم ماركس وإنجلس بشأن الدولة متناولين بإسهاب خاص ما نسي أو تعرض للتشويه الانتهازي من نواحي هذه التعاليم. وبعد ذلك سندرس بصورة خاصة الممثل الرئيسي لهذه التشويهات، كارل كاوتسكي، أشهر زعماء الأممية الثانية (سنوات 1889-1914) التي أفلست إفلاسا مشينا للغاية أثناء الحرب الراهنة. وسنستخلص في النهاية الاستنتاجات الرئيسية من خبرة الثورتين الروسيتين، ثورة سنة 1905 وثورة 1917 بوجه خاص. ويبدو أن هذه الأخيرة تنهي في الوقت الحاضر (أول غشت سنة1917) المرحلة الأولى من تطورها، ولكن هذه الثورة بأكملها لا يمكن فهمها بوجه عام إلاّ باعتبارها حلقة من حلقات سلسلة الثورات البروليتارية الاشتراكية التي تثيرها الحرب الإمبريالية. وهكذا، فإن مسألة موقف الثورة البروليتارية الاشتراكية من الدولة لا تكتسب أهمية سياسية عملية وحسب، بل تغدو كذلك مسألة ملحة من مسائل الساعة، باعتبارها مسألة تبيان ما ينبغي للجماهير أن تفعله في المستقبل القريب للخلاص من نير رأس المال.
مقدمة للطبعة الثانية
تصدر هذه الطبعة، الثانية، دون أي تغيير تقريبا، إذ لم يضف عليها غير المقطع الثالث في الفصل الثاني.
الفصل الأول
المجتمع الطبقي والدولة
1-الدولة هي نتاج استعصاء التناقضات الطبقية
يحدث الآن لتعاليم ماركس ما حدث أكثر من مرة في التاريخ لتعاليم المفكرين الثوريين وزعماء الطبقات المظلومة في نضالها من أجل التحرر. ففي حياة الثوريين العظام كانت الطبقات الظالمة تجزيهم بالملاحقات الدائمة وتتلقى تعاليمهم بغيظ وحشي أبعد وحشية وحقد جنوني أبعد الجنون وبحملات من الكذب والافتراء وقحة أبعد القحة. وبعد وفاتهم تقوم محاولات لجعلهم أيقونات لا يرجى منها نفع أو ضر، لضمهم، إن أمكن القول، إلى قائمة القديسين، ولإحاطة أسمائهم بهالة ما من التبجيل بقصد «تعزية» الطبقات المظلومة وتخبيلها، مبتذلة التعاليم الثورية باجتثاث مضمونها وثلم نصلها الثوري. وفي أمر «تشذيب» الماركسية على هذا النحو تلتقي الآن البرجوازية والانتهازيون داخل الحركة العمالية. ينسون، يستبعدون، يشوهون الجانب الثوري من التعاليم، روحها الثورية. ويضعون في المقام الأول ويطنبون في امتداح ما هو مقبول للبرجوازية أو يبدو لها مقبولاً. فجميع الاشتراكيين-الشوفينيين هم الآن «ماركسيون»، بدون مزاح! والعلماء البرجوازيون الألمان الذين كانوا حتى الأمس متخصصين في استئصال الماركسية قد أخذوا يتحدثون أكثر فأكثر عن ماركس «ألماني وطني» ربّى على ما يزعمون اتحادات عمال منظمة خير تنظيم لشن حرب الغزو!

حيال هذا الوضع، حيال انتشار تشويه الماركسية انتشارا منقطع النظير، يتلخص واجبنا قبل كل شيء في بعث تعاليم ماركس الحقيقية بشأن الدولة. وهذا يقتضي إيراد جملة من فقرات طويلة تثقل البحث بطبيعة الحال دون أن تهمد البتة لجعله أقرب إلى الفهم. ولكن الاستغناء عنها أمر ليس في الإمكان بحال. ينبغي حتما أن نقيس في مؤلفات ماركس وانجلس وبأتم شكل ممكن جميع الفقرات المتعلقة بمسألة الدولة أو، على الأقل، جميع الفقرات الفاصلة، لكيما يتمكن القارئ من أن يكوّن لنفسه بصورة مستقلة فكرة عن مجمل نظريات مؤسسي الاشتراكية العلمية وعن تطور هذه النظريات، وكذلك لكيما نبرهن استنادا إلى الوثائق ونضج بجلاء تشويه هذه النظرات من قبل «الكاوتسكية» السائدة اليوم.
نبدأ من أوسع مؤلفات فريدريك إنجلس انتشارا: «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، هذا المؤلف الذي صدرت طبعته السادسة في سنة 1894 في شتوتغارت. ويتأتى علينا أن نترجم المقتبسات عن الأصل الألماني لأن التراجم الروسية، مع كثرتها، هي، في الأغلب، إمّا غير كاملة وإما مترجمة بصورة غير مرضية أبداً.
يقول إنجلس ملخصا نتائج تحليله التاريخي:
«الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره؛ الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد تورط في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وأنه قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر هي الدولة» (ص 177-178 من الطبعة الألمانية السادسة).
في هذه الفقرة قد أعرب بأتم الوضوح عن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الماركسية في مسألة دور الدولة التاريخي وشأنها. فالدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدر ما لا يمكن، موضوعيا، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها.
في هذه النقطة الأساسية والهامة جدا على وجه التدقيق يبدأ تشويه الماركسية الذي يتبع اتجاهين رئيسيين.
من جهة، الإيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الإيديولوجيون البرجوازيون الصغار، -المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمرا ممكنا. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق –الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! –الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفا اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.
وهكذا، عندما طرحت في ثورة سنة 1917 مسألة شأن الدولة ودورها بكل خطورتها، عندما طرحت عمليا باعتبارها مسألة عمل مباشر وفي النطاق الجماهيري، انزلق جميع الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، جميعهم دفعة واحدة ودون تحفظ، نحو النظرية البرجوازية الصغيرة القائلة أن «الدولة» «توفق» بين الطبقات. القرارات والمقالات التي وضعها ساسة هذين الحزبين بعدد لا يحصى، تتخللها من ألفها إلى يائها هذه النظرية التافهة البرجوازية الصغيرة، نظرية «التوفيق». أمّا أن الدولة هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينهما وبين نقيضها (الطبقة المضادة لها)، فهذا ما لا تستطيع الديموقراطية البرجوازية الصغيرة فهمه بحال. والموقف الذي يقفه من الدولة الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة عندنا، هو دليل من أوضح الأدلة على أنهم ليسوا باشتراكيين قط (الأمر الذي كنا نحن البلاشفة نبرهنه على الدوام)، بل هم ديموقراطيون برجوازيون صغار ذوو عبارات تكاد تكون اشتراكية.

ومن الجهة الأخرى التشويه «الكاوتسكي» للماركسية، وهو أحسن تقنيعا بكثير. فهو لا ينكر «نظريا» لا واقع أن الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية ولا واقع أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها. ولكن يُغفل ويُطمس الأمر التالي: إذا كانت الدولة نتاج استعصاء التناقضات الطبقية، وإذا كانت قوة فوق المجتمع و«تنفصل عن المجتمع أكثر فأكثر»، فمن الواضح أن تحرير الطبقة المظلومة لا يمكن ليس بدون ثورة عنيفة وحسب، بل أيضاً بدون القضاء على جهاز سلطة الدولة الذي أنشأته الطبقة السائدة والذي يتجسد فيه هذا «الانفصال». إن هذا الاستنتاج، البديهي من الناحية النظرية، قد وصل إليه ماركس بأتم الدقة، كما سنرى فيما يأتي، على أساس تحليل تاريخي ملموس لواجبات الثورة. وقد… «نسي» كاوتسكي وشوه هذا الاستنتاج عينه، وسنتبين ذلك بالتفصيل فيما يأتي من البحث
2-فصائل خاصة من رجال مسلحين، وسجون، الخ.
يستطرد انجلس قائلا: «…وبالمقارنة مع التنظيم «الجنسي» القديم (العشائري أو القبلي) تتميز الدولة، أولاً بتقسيم رعايا الدولة بموجب تقسيم الأراضي»
وهذا التقسيم يبدو لنا «طبيعياً»، ولكنه قد تطلب نضالا طويلا ضد التنظيم القديم على أساس القبائل أو العشائر.
« والسمة المميزة الثانية هي تأسيس السلطة العامة التي لم تعد تنسجم مباشرة مع السكان المنظمين أنفسهم بأنفسهم في قوة مسلحة. وهذه السلطة العامة المميزة ضرورية لأن منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها غدت أمرا مستحيلا منذ انقسام المجتمع إلى طبقات… وتوجد هذه السلطة العامة في كل دولة. وهي لا تتألف فقط من رجال مسلحين، بل كذلك من ملاحق مادية، من السجون ومختلف مؤسسات القسر التي كانت معدومة في المجتمع المنظم على أساس القبائل (العشائر)…»
إن انجلس يشرح مفهوم «القوة» التي تسمى الدولة، القوة التي نشأت في المجتمع، ولكنها تضع نفسها فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر. مم تتألف هذه القوة بصورة رئيسية؟ من فصائل خاصة من رجال مسلحين تحت تصرفهم السجون والخ..
يحق لنا أن نتحدث عن فصائل خاصة من رجال مسلحين لأن السلطة العامة الملازمة لكل دولة «لا تنسجم مباشرة» مع السكان المسلحين، مع «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها».
إن انجلس، شأن جميع المفكرين الثوريين العظام، يسعى ليلفت أنظار العمال الواعين إلى ما يبدو بالضبط في نظر الذهنية البرجوازية الصغيرة السائدة أقل ما يستحق الإنتباه، إلى أكثر ما يبدو لها مألوفا، مقدسا بأوهام متأصلة، بله يمكن القول، متحجرة. الجيش الدائم والشرطة هما الأداتان الرئيسيتان لقوة سلطة الدولة. ولكن كيف يمكن، يا ترى، أن يكون الأمر على غير ذلك؟
لا يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك من وجهة نظر الأكثرية الساحقة من أوروبيي أواخر القرن التاسع عشر الذين توجه إليهم انجلس والدين لم يعيشوا ولم يشاهدوا عن كثب أية ثورة كبرى. فهم لا يفهمون أبدا ما هي «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها». وعلى السؤال: لماذا غدا من الضروري وجود فصائل خاصة من رجال مسلحين الشرطة والجيش النظامي) توضع فوق المجتمع وتنفصل عنه، يميل التافه الضيق الأفق في أوروبا الغربية وروسيا إلى الجواب بجملة من عبارات مقتبسة من سبنسر أو ميخايلوفسكي، مستشهدا بتعقد الحياة الإجتماعية، بتمايز الوظائف وهلم جراً.
وهذا الاستشهاد يبدو «عملياً» وهو ينوم بصورة ممتازة ذا الذهنية البرجوازية الصغيرة بطمسه الأمر الرئيسي والأساسي، أي انقسام المجتمع إلى طبقات متعادية عداء مستعصياً.
ولو لا هذا الانقسام لكانت «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها» تتميز بتعقيدها ورقي عتادها وغير ذلك عن منظمة بدائيين أو الناس المنظمين في مجتمعات قبائلية، ولكن مثل هذه المنظمة تكون أمرا ممكنا.
ولكنها أمر مستحيل لأن المجتمع المتمدن منقسم إلى طبقات متعادية عداء مستعصيا يسفر تسلحها «العامل من تلقاء نفسه» عن تقاتلها بالسلاح. تتشكل الدولة وتنشأ قوة خاصة، فصائل خاصة من رجال مسلحين؛ وكل ثورة، بهدمها لجهاز الدولة، ترينا النضال الطبقي المكشوف، ترينا رأي العين كيف تحاول الطبقة السائدة أن تبعث ما في خدمتها هي من الفصائل الخاصة من الرجال المسلحين وكيف تحاول الطبقة المظلومة إنشاء منظمة جديدة من هذا النوع، كفوءا لا لخدمة المستثمِرين، بل المستثمَرين.
في الفقرة المذكورة يطرح انجلس نظرياً نفس المسألة التي تطرحها أمامنا كل ثورة كبرى عمليا، بجلاء، وفي نطاق عمل الجماهير، نعني مسألة العلاقات بين الفصائل «الخاصة» من الرجال المسلحين و«منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها». وسنرى كيف تتوضح هذه المسألة عمليا بتجربة الثورات الأوروبية والروسية.
ولكن لنعد إلى مبحث انجلس.
إنه يبين أن هذه السلطة العامة تكون ضعيفة أحيانا، في بعض مناطق أمريكا الشمالية مثلاً (يدور الحديث عن حالات نادرة في المجتمع الرأسمالي، وعن مناطق أمريكا الشمالية في عهد ما قبل الإمبريالية، حيث كان يهيمن المعمر الحر). ولكنها، عموما، تتقوى:
« تتقوى السلطة العامة بمقدار ما تتفاقم التناقضات الطبقية في داخل الدولة وبمقدار ما تزداد الدول المتلاصقة مساحة وسكاناً. لأنظروا على الأقل إلى أوروبا الراهنة حيث رفع النضال الطبقي والتنافس على الفتوحات السلطة العامة إلى مستوى غدت معه تهدد بابتلاع المجتمع برمته بما فيه الدولة نفسها…» لقد كتب هذا في تاريخ لا يتجاوز مستهل سنوات العقد العاشر من القرن الماضي. فمقدمة انجلس الأخيرة مؤرخة في 16 يونيو 1891. في ذلك الحين كان الانعطاف نحو الإمبريالية –بمعنى سيطرة التروستات سيطرة تامة وبمعنى حول وطول البنوك الكبرى وبمعنى عظمة نطاق السياسة الاستعمارية، الخ.- قد بدأ لتوه في فرنسا، وكان أضعف في أمريكا الشمالية وفي ألمانيا. ومنذ ذلك الحين خطا «التنافس على الفتوحات» خطوة كبرى إلى الأمام، لا سيما والكرة الأرضية قد ظهرت في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين مقتسمة نهائياً بين هؤلاء «الفاتحين المتنافسين»، أي بين الدول السلابة الكبرى. ومنذ ذلك الحين ازداد التسلح العسكري والبحري ازدياداً هائلاً وحرب النهب، حرب سنوات 1914-1918 التي اندلعت من أجل سيطرة إنجلترا أو ألمانيا على العالم، من أجل اقتسام الغنيمة، قد قربت من الكارثة التامة «ابتلاع» جميع قوى المجتمع من قبل سلطة دولة ضاربة.
لقد استطاع انجلس أن يبين منذ سنة 1891 أن «التنافس على الفتوحات» هو سمة من السمات الهامة المميزة لسياسة الدول الكبرى في الحقل الخارجي، في حين أن أنذال الاشتراكية-الشوفينية يعمدون في سنوات 1914-1918، عندما كان هذا التنافس بالذات المشتد أضعافاَ مضاعفة قد أسفر عن الحرب الإمبريالية، إلى تستير المصالح الاغتصابية لبرجوازيتـ«هم» بعبارات «الدفاع عن الوطن» و«الدفاع عن الجمهورية والثورة» وما شاكل!
3-الدولة أداة لاستثمار الطبقة المظلومة
للإنفاق على سلطة عامة مميزة تقف فوق المجتمع تلزم الضرائب وتلزم ديون الدولة.
لقد كتب انجلس: « إن الموظفين،إذ يتمتعون بالسلطة العاملة وبحق جباية الضرائب يصحبون، باعتبارهم هيئات المجتمع، فوق المجتمع. فالاحترام الطوعي الاختياري الذي كان يمحض لهيئات مجتمع القبائل (العشائر) لم يعد يكفيهم حتى فيما لو كان باستطاعتهم اكتسابه…». وتوضع قوانين خاصة بشأن قداسة وحصانة الموظفين. «فلأحقر شرطي» «سلطان» يفوق سلطان ممثلي العشيرة، ولكن رئيس السلطة العسكرية نفسه في دولة متمدنة يغبط شيخ العشيرة الذي يمحضه المجتمع «احتراما لم يفرض بالعصا».
لقد طرحت هنا مسألة وضع الموظفين الممتازين باعتبارهم هيئات سلطة الدولة. والأمر الرئيسي هو أن نعلم: ما الذي يضعهم فوق المجتمع؟ وسنرى كيف حلت كومونة باريس عمليا في سنة 1871 هذه المسألة النظرية وكيف طمسها كاوتسكي رجعيا في سنة 1912.
« بما أن الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات؛ وبما أنها نشأت في الوقت نفسه ضمن الاصطدامات بين هذه الطبقات، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسيا أيضا وتكتسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة واستمرارها…». فالدولة القديمة والدولة الإقطاعية لم تكونا وحدهما هيئتين لاستثمار العبيد والأقنان، بل كذلك «الدولة التمثيلية الحديثة هي أداة لاستثمار العمل المأجور من قبل رأس المال. ومع ذلك فثمة، كحالات استثنائية، مراحل تبلغ فيها الطبقات المتصارعة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعا من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهرا وسيطا بينهما…» ومن هذا القبيل كان الحكم الملكي المطلق في القرنين السابع عشر والثامن عشر والبونابرتية في الإمبراطوريتين الأولى والثانية في فرنسا وبيسمارك في ألمانيا.
ومن هذا القبيل –نضيف نحن- حكومة كرينسكي في روسيا الجمهورية بعد الإنتقال إلى ملاحقة البروليتاريا الثورية، في البرهة التي كانت فيها السوفييتات قد غدت عاجزة من جراء قيادة الديموقراطيين صغار البرجوازيين ولم تكن فيها البرجوازية بعد قوية لحد يمكن من حل السوفييتات على المكشوف.
في الجمهورية الديموقراطية –يستطرد إنجلس- «تمارس الثورة سلطتها بصورة غير مباشرة، ولكن بالشكل الأضمن» :أولاً، عن طريق «الرشوة المباشرة للموظفين» (أمريكا) وثانيا، عن طريق «التحالف بين الحكومة والبورصة»(فرنسا وأمريكا).
وفي الوقت الحاضر «رقت» الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أية جمهورية ديموقراطية كانت. فإذا كان السيد بالتشينسكي، مثلاً، عندما كانت الجمهورية الديموقراطية بروسيا في أشهرها الأولى بالذات –ويمكن القول في شهر العسل لقران «الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية، وإذا كان السيد باتشينسكي الذي خرج من الوزارة فيما بعد (واستعيض عنه أيضا بباتشينسكي آخر لا يختلف عنه في شيء) قد «كوفئ» من قبل الرأسماليين بمنصب راتبه 120 ألف روبل في السنة- فبمَ يوصف ذلك؟ أهو رشوة مباشرة أم غير مباشرة؟ أهو تحالف الحكومة مع سنديكات الرأسماليين أم علاقات ودية «فقط لا غير»؟ وما هو الدور الذي يلعبه تشيرنوف وتسيرتيلي وافكسنتييف وسكوبيليف ومن على شاكلتهم؟ أهم حلفاء «مباشرون» لأصحاب الملايين سارقي الخزينة، أم غير مباشرين وحسب؟
إن سلطان «الثورة» هو كذلك أضمن في ظل الجمهورية الديموقراطية لأنه لا يتوقف على هذه النواقص أو تلك للآلية السياسية وعلى غلاف الرأسمالية السياسي الرديء. فالجمهورية الديموقراطية هي أحسن غلاف سياسي ممكن للرأسمالية، ولذا فرأي المال، إذ يستولي على هذا الغلاف الأفضل (عن طريق بالتشينسكي ةتشيرنوف وتسيريتيلي ومن لف لفهم) يقيم سلطته على أساس مكين، على أساس مضمون لحد لا يمكن لأي تبديل في الأشخاص ولا في المؤسسات ولا في الأحزاب في الجمهورية البرجوازية الديموقراطية أن يزعزع هذه السلطة.
كذلك يجدر بالذكر أن إنجلس يصف بصورة جلية قاطعة حق الإنتخاب العام أيضا بأنه أداة لسيادة البرجوازية. فقد قال آخذا بعين الإعتبار بصورة جلية الخبرة التي اكتسبتها الاشتراكية الديموقراطية الألمانية خلال وقت طويل أن حق الإنتخاب العام هو «دليل نضج الطبقة العاملة. ولا يمكنه أن يكون ولن يكون أبدا أكثر من ذلك في الدولة الراهنة».
إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين، أشباه الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة في بلادنا ، وكذلك أشقاءهم، جميع الاشتراكيين-الشوفينيين في أوروبا الغربية، ينتظرون من حق الإنتخاب العام «أكثر» من ذلك بالضبط. إنهم يؤمنون هم أنفسهم ويوهمون الشعب بفكرة مغلوطة مفادها أن حق الانتخاب العام «في الدولة الراهنة» يستطيع أن يظهر في الواقع إرادة أكثرية الشغيلة وأن يضمن تطبيقها.
لا يسعنا هنا غير الإيماء إلى هذه الفكرة المغلوطة، غير الإشارة إلى أن تصريح انجلس الجلي والدقيق والملموس تماما تشوهه في كل لحظة دعاية وتحريض الاحزاب الاشتراكية «الرسمية» (أي الانتهازية). فتتمة عرضنا لنظرية ماركس وانجلس عن الدولة «الراهنة» تبين بالتفصيل مبلغ البطلان في الفكرة التي ينبذها هنا إنجلس.
يعطي إنجلس في أوسع مؤلفاته انتشارا خلاصة عامة لنظراته بالعبارات التالية:
«وهكذا، فالدولة لم توجد منذ الأزل. فقد وجدت مجتمعات كانت في غنى عن الدولة ولم يكن لديها أية فكرة عن الدولة وسلطة الدولة. وعندما بلغ التطور الاقتصادي درجة اقترنت بالضرورة بانقسام المجتمع إلى طبقات، غدت الدولة بحكم هذا الانقسام أمرا ضروريا. ونحن نقترب الآن بخطوات سريعة من درجة في تطور الإنتاج لا يكف عندها وجود هذه الطبقات عن أن يكون ضرورة وحسب، بل يصبح عائقا مباشرا للإنتاج. ستزول الطبقات بالضرورة كما نشأت في الماضي بالضرورة. ومع زوال الطبقات ستزول الدولة بالضرورة. والمجتمع الذي ينظم الإنتاج تنظيما جديدا على أساس اتحاد المنتجين بحرية وعلى قدم المساواة، سيرسل آلة الدولة بأكملها إلى حيث ينبغي أن تكون حينذاك: إلى متحف العادات بجانب المغزل البدائي والفأس البرونزية».
لا يصادف المرء هذا المقتبس إلاّ غرارا فيما تصدره الاشتراكية-الديموقراطية المعاصرة من مطبوعات الدعاية والتحريض. ولكن حتى عندما يصادف هذا المقتبس فإنما يوردونه في أغلب الأحيان وكأنهم ينحنون أمام أيقونة، أي للإفصاح الرسمي عن إجلال انجلس، دون أية محاولة لإمعان الفكر في مدى سعة وعمق نطاق الثورة الذي يفترضه «إرسال آلة الدولة بأكملها إلى متحف العادات». بل انه في الغالب لا يلاحظ أن ثمة فهما لما يسميه انجلس بآلة الدولة.
4-الثورة العنيفة و«اضمحلال» الدولة
إن كلمات إنجلس عن «اضمحلال» الدولة بدرجة من الشهرة، ويُستشهد بها بدرجة من التكرار، تبين كنه تكييف الماركسية المعتاد تبعا للانتهازية بدرجة من الوضوح بحيث أنه لابد من تناولها بإسهاب. فلنورد كامل الفقرة التي اقتبست منها:
«تأخذ البروليتاريا سلطة الدولة وتحول وسائل الانتاج قبل كل شيء إلى ملك الدولة. ولكنها تقضي على نفسها بوصفها بروليتاريا، تقضي بذلك على كل الفوارق الطبقية وجميع المتضادات الطبقية وعلى لدولة في الوقت نفسه بوصفها دولة. إن المجتمع الذي وجد ولا يزال والذي يتحرك ضمن المتضادات الطبقية كان بحاجة إلى الدولة، أي إلى منظمة للطبقة المستثمِرة قسرا في ظروف القمع الناجمة عن أسلوب الانتاج القائم (العبودية، القنانة، العمل المأجور). لقد كانت الدولة الممثل الرسمي للمجتمع بأكمله، تركزه في جسم منظور، ولكنها لم تكن كذلك إلاّ بمقدار ما كانت دولة تلك الطبقة التي كانت وحدها تمثل في عصرها المجتمع بأكله: في العصور القديمة كانت دولة ملاكي العبيد –مواطني الدولة، وفي القرون الوسطى كانت دولة الأعيان الإقطاعيين، أخيرا، ممثل المجتمع بأكمله حقا، أية طبقة اجتماعية ينبغي قمعها؛ وعندما تزول مع السيطرة الطبقية ومع الفوضى الراهنة في الإنتاج، تلك الاصطدامات وأعمال الشطط (التطرف) الناتجة عن هذا الصراع، لا يبقى هناك ما ينبغي قمعه، ولا تبقى أيضا ضرورة لقوة خاصة للقمع، للدولة. وأول عمل تبرز فيه الدولة حقا بوصفها ممثل المجتمع بأكمله –تملك وسائل الانتاج باسم المجتمع- هو في الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة، وعندئد يصبح تدخل الدولة في العلاقات الإجتماعية أمرا لا لزوم له في ميدان بعد آخر ويخبو من نفسه. وبدلا من حكم الناس «تلغى» إنها تضمحل. وعلى هذا الأساس ينبغي تقييم عبارة «الدولة الشعبية الحرة»، هذه العبارة التي كان لها حق البقاء بعض الوقت للتحريض ولكنها باطلة في آخر التحليل من وجهة النظر العملية. وعلى هذا الأساس ينبغي كذلك تقييم مطلب من يسمون بالفوضويين القائل بإلغاء الدولة بين عشية وضحاها» («ضد دوهرينغ». «السيد أوجين دوهرينغ يقلب العلم»، ص 301-303، الطبعة الألمانية الثانية).
بوسعنا أن نقول دون أن نخشى الزلل أن الصيغة القائلة أن الدولة «تضمحل»، برأي ماركس وخلافا للنظرية الفوضوية القائلة بـ«إلغاء» الدولة، هي كل ما تبقى من فقرة انجلس هذه الغنية جداً بالأفكار، مكتسبا حقا للفكر الاشتراكي في الأحزاب الاشتراكية الراهنة. إن بتر الاشتراكية بهذا الشكل يعني الهبوط بها إلى حضيض الانتهازية، إذ أن كل ما تبقى بعد هذا «التأويل» هو تصور مبهم عن تغير بطيء، موزون، تدريجي، عن انعدام القفز والأعاصير، عن انعدام الثورة. إن مفهوم «اضمحلال» الدولة بالمعنى الشائع، المنتشر عموما والجماهيري، إن أمكن التعبير، يعني دون شك طمس الثورة إن لم يكن إنكارها.
بيد أن هذا «التأويل» هو تشويه فظ جدا للماركسية، مفيد للبرجوازية وحدها، ويقوم نظريا على نسيان ظروف واعتبارات هامة للغاية ذكرت مثلا في فقرة انجلس «التلخيصية» التي أوردناها كاملة.
أولا. في مستهل هذه الفقرة بالذات يقول إنجلس أن البروليتاريا، إذ تأخذ سلطة الدولة، «تقضي بذلك على الدولة بوصفها دولة». أما معنى ذلك بصورة تامة أو يعزى إلى شيء ما بمثابة «ضعف هيغلي» عند إنجلس. وفي الواقع تعرب هذه الكلمات باقتضاب عن خبرة ثورة من أكبر الثورات البروليتارية، عن خبرة كومونة باريس 1871، الأمر الذي سنتحدث عنه بتفصيل في مكانه. هنا يتحدث إنجلس في الواقع عن «قضاء» الثورة البروليتارية على دولة البرجوازية، في حين أن ما قاله عن الاضمحلال يخص بقايا الدولة البروليتارية بعد الثورة الاشتراكية. الدولة البرجوازية لا «تضمحل» برأي إنجلس، ولكن «تقضي عليها» البروليتاريا في الثورة. تضمحل بعد هذه الثورة الدولة البروليتارية أو شبه الدولة.
ثانيا. الدولة هي «قوة خاصة للقمع». إن إنجلس قد أعطى هنا بأتم الوضوح تعريفه الرائع هذا والعميق منتهى العمق. ويستنتج منه أن «القوة الخاصة لقمع» البروليتاريا من قبل البرجوازية، قمع الملايين من الشغيلة من قبل حفنات من الأغنياء لا بد أن يستعاض عنها بـ«القوة الخاصة لقمع» البرجوازية من قبل البروليتاريا (ديكتاتورية البروليتاريا). وفي هذا كنه «القضاء على الدولة بوصفها دولة». وفي هذا كنه «عملية» تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع. ومن الواضح بداهة أن مثل هذه الاستعاضة عن «قوة خاصة» (برجوازية) بـ«قوة خاصة» أخرى (بروليتارية) لا يمكنها بتاتا أن تتم بشكل «اضمحلال».

ثالثا. يتكلم إنجلس عن «اضمحلال» أو حتى، وهو تعبير أبرز وأجمل، عن «الخبو» قاصدا بأتم الوضوح والجلاء مرحلة ما بعد «تملك الدولة لوسائل الإنتاج باسم المجتمع كله»، أي مرحلة ما بعد الثورة الاشتراكية. ونحن جميعا نعلم أن الشكل السياسي «للدولة» في هذه المرحلة هو الديموقراطية الأتم. ولكن لم يدر في خلد أحد من الانتهازيين الذين يشوهون الماركسية دونما خجل أن الحديث يدور هنا عند انجلس، بالتالي، عن «خبو» و«اضمحلال» الديموقراطية. ويبدو ذلك لأول وهلة في منتهى الغرابة. ولكن «لا يستطيع أن يفهم ذلك» غير الذين لم يصل بهم تفكيرهم إلى أن الديموقراطية هي أيضا دولة وأن الديموقراطية تزول هي أيضا، تبعا لذلك، عندما تزول الدولة. الدولة البرجوازية لا يستطيع «القضاء» عليها غير الثورة. والدولة بوجه عام، أي الديموقراطية الأتم، يمكنها أن «تضمحل» وحسب.
رابعا. صاغ انجلس موضوعته المشهورة: «الدولة تضمحل» شارحا بصورة مباشرة وملموسة أن هذه الموضوعة موجهة في وقت معا ضد الانتهازيين وضد الفوضويين. هذا وقد وضع انجلس في المقام الأول الاستنتاج الموجه ضد الانتهازيين والمستخلص من موضوعة «إضمحلال الدولة».
بإمكان المرء أن يراهن أن 9990 من 10000 شخص قرأوا أو سمعوا عن «إضمحلال» الدولة لا يعرفون بتاتا أو لا يدركون أن انجلس يوجه استنتاجاته من هذه الموضوعة ليس فقط ضد الفوضويين، وعلى أن تسعة من الأشخاص العشرة الباقين لا يعرفون، أغلب الضن، ما هي «الدولة الشعبية الحرة» ولماذا يتضمن الهجوم على هذا الشعار هجوما على الإنتهازيين. هكذا يُكتب التاريخ! وهكذا يجري بصورة غير ملحوظة تحوير التعاليم الثورية العظمى تبعا لروح التفاهة وضيق الأفق السائدة. فإن الاستنتاج الموجه ضد الفوضويين قد كرر ألف مرة، وحقر وحشي في الرؤوس بالشكل الأكثر ابتذالا واكتسب متانة الأوهام. أمّا الاستنتاج الموجه ضد الانتهازيين فقد طمسوه و«نسوه»!
«الدولة الشعبية الحرة» كانت مطلبا في برنامج الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان في سنوات العقد الثامن وشعارا من شعاراتهم الشائعة. هذا الشعار خال من كل مضمون سياسي عدا الوصف البرجوازي الصغير الطنان لمفهوم الديموقراطية. ولما كانوا يلمحون علنا في هذا الشعار إلى الجمهورية الديموقراطية كان إنجلس مستعدا «لتبريره» «بعض الوقت» من وجهة نظر التحريض. ولكن هذا الشعار كان انتهازيا، لأنه لم يفصح فقط عن تجميل الديموقراطية البرجوازية، بل وكذلك عن عدم فهم النقد الاشتراكي لكل دولة بوجه عام. نحن نؤيد الجمهورية الديموقراطية لأنها بالنسبة إلى البروليتاريا الشكل الأفضل للدولة في عهد الرأسمالية، ولكن لا يحق لنا أن ننسى أن عبودية العمل المأجور هي نصيب الشعب حتى في الجمهورية البرجوازية الأكثر ديموقراطية. وبعد. إن كل دولة هي «قوة خاصة لقمع» الطبقة المظلومة. ولذا فكل دولة ليست حرة وليست شعبية. وقد شرح ماركس وإنجلس ذلك مرارا وتكرارا لرفاقهما الحزبيين في سنوات العقد الثامن.
خامسا. إن مؤلف إنجلس ذاته الذي يتذكر منه الجميع المحاكمة بصدد اضمحلال الدولة يتضمن محاكمة بصدد أهمية الثورة العنيفة. فالتقدير التاريخي لدورها يتحول عند إنجلس إلى تقريظ حق للثورة العنيفة. و«ما من أحد يذكر» ذلك. فالحديث بله مجرد التفكير بأهمية هذه الفكرة غير مألوف في الأحزاب الاشتراكية الحالية، وفي الدعاية والتحريض اليوميين بين الجماهير ليس لهذه الأفكار أي دور. هذا في حين أنها تقترن بفكرة «اضمحلال» الدولة اقترانا وثيقا، وتكون معها كلاً متراصا.
وها هي ذي محاكمة إنجلس هذه:
« أما أن العنف يلعب في التاريخ كذلك دورا آخر» (عدا ما يسبب من شر) «وبالضبط دورا ثوريا، وأنه، كما قال ماركس، المولدة لكل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد، وأن العنف هو تلك الأداة التي تشق الحركة الاجتماعية بواسطتها لنفسها الطريق وتحطم الأشكال السياسية المتحجرة والميتة –عن كل ذلك لم ينبس السيد دوهرينغ بكلمة. إنه يسلم فقط، مع إطلاق الزفرات والأنات، بأن إسقاط السيطرة القائمة على الاستثمار قد يتطلب عنف. ويا للأسف لأن كل استعمال للعنف يضعف، كما قال، معنويات من يلجأ إليه. وذلك يقال رغم ما نعلم من مبلغ النهوض الأخلاقي والفكري الذي كان ينجم عن كل ثورة ظافرة! وذلك يقال في ألمانيا حيث من شأن الاصطدام العنيف، الذي قد يفرض على الشعب ، أن يتسم، على أقل تقدير، بمزية استئصال روح الخنوع التي تغلغلت في وعي الأمة من جراء إهانات حرب الثلاثين سنة. إن تفكير الخوارنة هذا، السقيم الهزيل العاجز، يجرأ على فرض نفسه على الحزب الذي لم يعرف التاريخ مضارعا لروحه الثورية!» (ص 193، حسب الطبعة الألمانية الثالثة، نهاية الفصل الرابع من القسم الثاني).
وكيف السبيل إلى الجمع في تعاليم واحدة بين هذا التقريظ للثورة العنيفة، الذي ظل إنجلس يقدمه بإلحاح للاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان من سنة 1878 حتى سنة 1894، أي حتى وفاته، بين نظرية «اضمحلال» الدولة؟
في المعتاد يجمعون بين هذه وتلك جمعا اختياريا، عن طريق الاقتطاف الكيفي غير المبدئي والسفسطائي (أو لإرضاء القابضين على السلطة) لهذه الموضوعة طورا وصورا لتلك، علما بأنه في تسع وتسعون حالة من مائة، إن لم يكن أكثر، يوضع «الاضمحلال» بالذات في المقام الأول. يستعاض عن الدياليكتيك بالمذهب الإختياري، وهذا التصرف حيال الماركسية هو الظاهرة المألوفة للغاية والأوسع انتشارا في الأدب الاشتراكي-الديموقراطي الرسمي في أيامنا. وهذه الاستعاضة ليست طبعا ببدعة مستحدثة، فقد لوحظت حتى في تاريخ الفلسفة اليونانية الكلاسيكية. أن إظهار الإختيارية بمظهر الدياليكتيك في حالة تحوير الماركسية تبعا للانتهازية، يخدع الجماهير بأسهل شكل، يرضيها في الظاهر، إذ يبدو وكأنه يأخذ بعين الإعتبار جميع نواحي العملية، جميع اتجاهات التطور، جميع المؤثرات المتضادة الخ.، ولكنه في الواقع لا يعطي أي فكرة منسجمة وثورية عن عملية تطور المجتمع.
لقد قلنا فيما تقدم وسنبين بمزيد من التفاصيل فيما يأتي من البحث أن تعاليم ماركس وإنجلس بصدد حتمية الثورة العنيفة تتعلق بالدولة البرجوازية. فهذه لا يمكن الاستعاضة عنها بدولة بروليتارية (ديكتاتورية البروليتاريا) عن طريق «الإضمحلال»، لا يمكن، كقاعدة عامة، إلاّ بالثورة العنيفة. فالتقريظ الذي خصها به انجلس والذي يتفق كل الاتفاق مع تصريحات ماركس العديدة (فلنتذكر خاتمة «بؤس الفلسفة» وخاتمة «البيان الشيوعي» حيث ينادي باعتزاز وعلى المكشوف بحتمية الثورة العنيفة، ولنتذكر انتقاد برنامج غوتا سنة 1875، الذي جاء بعد نحو ثلاثين سنة، والذي قرّع فيه ماركس انتهازية هذا البرنامج دون رحمة، -إن هذا التقريظ ليس قط من قبيل «الكلف»، ليس قط من قبيل بهرج الكلام، ولا من قبيل الحماسة في الجدال، إن ضرورة تربية الجماهير بصورة دائمة بروح هذه النظرة وهذه النظرة بالذات للثورة العنيفة هي أساس تعاليم ماركس وإنجلس بأكملها. وخيانة تعاليمهما من قبل التيارين الاشتراكي-الشوفيني والكاوتسكي السائدين اليوم تتجلى بوضوح خاص في نسيان هؤلاء وأولئك لهذه الدعاية، لهذا التحريض.
إن الإستعاضة عن الدولة البرجوازية بدولة بروليتارية لا يمكن بدون ثورة عنيفة. والقضاء على الدولة البرجوازية، أي على كل دولة، لا يمكن عن غير طريق «الاضمحلال».
لقد طور ماركس وإنجلس هذه النظرات بصورة مفصلة وملموسة دارسين كل وضع ثوري بعينه ومحللين عبر خبرة كل ثورة بعينها. وها نحن ننتقل إلى هذا القسم من تعاليمهماوهو دون شك أهم أقسامها.

الفصل الثاني
الدولة والثورة. خبرة سنوات 1848-1851
1- عشية الثورة
إن «بؤس الفلسفة» و«البيان الشيوعي»، وهما باكورتا الماركسية الناضجة، يعودان بالضبط لعشية ثورة سنة 1848. وبحكم هذا الواقع نجد فيهما لحد ما، إلى جانب بسط الأسس العامة للماركسية، انعكاسا للوضع الثوري الملموس القائم آنذاك، ولذا ربما من الأصوب تحليل ما قاله مؤلفا هذين الكتابين عن الدولة مباشرة قبل بسطهما الاستنتاجات التي استخلصاها من خبرة سنوات 1848-1851.
قال ماركس في «بؤس الفلسفة»:
« في مجرى التطور ستحل الطبقة العاملة محل المجتمع البرجوازي القديم رابطة لا مكان فيها للطبقات وتضادها؛ ولن تكون ثمة أي سلطة سياسية بمعنى الكلمة الخاص، لأن السلطة السياسية بالذات هي الافصاح الرسمي عن تضاد الطبقات في قلب المجتمع البرجوازي» (ص 182 من الطبعة الألمانية لسنة 1885).

ومن المفيد أن نقارن هذا العرض العام لفكرة زوال الدولة بعد القضاء على الطبقات مع العرض الوارد في «البيان الشيوعي» الذي كتبه ماركس وإنجلس بعد عدة أشهر، أي في نوفمبر سنة 1848:
«عندما وصفنا أعم المراحل في تطور البروليتاريا، تتبعنا الحرب الأهلية المستترة لهذا الحد أو ذاك والجارية في المجتمع إلى الحد الذي تنقلب معه إلى ثورة مكشوفة وتؤسس فيه البروليتاريا سيادتها عن طريق اسقاط البرجوازية بالعنف
رأينا فيما تقدم أن الخطوة الأولى في الثورة العالمية هي تحول» (حرفيا: ترفي) «البروليتاريا إلى طبقة سائدة، الظفر بالديموقراطية.
تستفيد البروليتاريا من سيادتها السياسية لكينا تنتزع بالتدريج من البرجوازية كامل رأس المال وتمركز جميع أدوات الإنتاج في يد الدولة، أي في يد البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة ولكيما تزيد بأسرع ما يمكن القوى المنتجة» (ص31-37 من الطبعة الألمانية السابقة لسنة 1906).
نرى هنا صيغة لفكرة من أروع وأهم الأفكار الماركسية في مسألة الدولة، أي فكرة «ديكتاتورية البروليتاريا» (كما غدا ماركس وانجلس يقولان بعد كومونة باريس)، ثم تعريفا للدولة في منتهى الأهمية أيضا في عداد «ما نسي من كلمات» الماركسية. «الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة».
إن تعريف الدولة هذا، عدا أنه لم يشرح قط في مطبوعات الدعاية والتحريض المسيطرة الصادرة عن الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية، قد نسى، فضلا عن ذلك، بالضبط لأن التوفيقي بينه وبين الإصلاحية لا يمكن بوجه، ولأنه يفقأ عين الأوهام الانتهازية والبورجوازية الصغيرة المعتادة بصدد «تطور الديموقراطية السلمي».
البروليتاريا بحاجة إلى دولة –هذا ما يكرره جميع الإنتهازيين، والاشتراكيين-الشوفينيين والكاوتسكيين، مؤكدين أن هذه هي تعاليم ماركس و«ناسين» أن يضيفوا، أولا، أن البروليتاريا، برأي ماركس، ليست بحاجة إلاّ إلى دولة في طريق الاضمحلال، أي مبنية بشكل تأخذ معه بالاضمحلال على الفور ولا مندوحة لها معه من أن تضمحل. وثانيا، أن الشغيلة بحاجة إلى «دولة»، «أي إلى البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة».
الدولة هي نوع خاص من تنظيم للقوة، هي تنظيم للعنف بقصد قمع طبقة من الطبقات. فأية طبقة ينبغي للبروليتاريا أن تقمعها؟ بطبيعة الحال ينبغي لها أن تقمع الطبقة المستثمِرة وحدها، أي البرجوازية. إن الشغيلة ليسوا بحاجة إلى الدولة إلاّ لقمع مقاومة المستثمِرين، ولا يقدر على قيادة هذا القمع، على تطبيقه عموما، غير البروليتاريا بوصفها الطبقة الوحيدة الثورية حتى النهاية، الطبقة الوحيدة الكفء لتوحيد جميع الشغيلة والمستثمَرين من أجل النضال ضد البرجوازية، من أجل إسقاطها تماما.
تحتاج الطبقات المستثمِرة إلى السيادة السياسية للإبقاء على الاستثمار، أي من أجل المصالح الأنانية للأقلية الضئيلة وضد الأكثرية الساحقة من الشعب وضد الأقلية الضئيلة من ملاكي العبيد المعاصرين، أي الملاكين العقاريين والرأسماليين.
إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين، أدعياء الاشتراكية هؤلاء، الذين استعاضوا عن النضال الطبقي بأحلام عن التوفيق بين الطبقات، تصوروا كذلك التحويل الاشتراكي بصورة خيالية، لا بصورة إسقاط سيادة الطبقة المستثمِرة، بل بصورة خضوع الأقلية بشكل سلمي للأكثرية المدركة لواجباتها. وهذه الطوباوية البرجوازية الصغيرة المرتبطة ارتباطا لا تنفصم عراه بالاعتراف بوجود دولة قائمة فوق الطبقات قد أفضت عمليا إلى خيانة مصالح الطبقات الكادحة، كما بين ذلك مثلا تاريخ ثورتي 1848 و1871 الفرنسيتين وكما بينت خبرة الاشتراك «الاشتراكي» بالوزارات البرجوازية في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من البلدان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
لقد ناضل ماركس طيلة حياته ضد هذه الاشتراكية البرجوازية الصغيرة التي بعثها الآن في روسيا حزبا الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة. وقد طور ماركس باستقامة نظرية النضال الطبقي بما في ذلك نظرية السلطة السياسية، نظرية الدولة.
إن إسقاط سيادة البرجوازية لا يمكن إلاّ من جانب البروليتاريا باعتبارها طبقة خاصة تعدها ظروف وجودها الاقتصادية لهذا الإسقاط وتعطيها الإمكانية والقوة للقيام بذلك. فبينما تجزئ البرجوازية وتبعثر الفلاحين وجميع الفئات البرجوازية الصغيرة ترص البروليتاريا وتوحدها وتنظمها. فالبروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم، هي الوحيدة الكفء لتكون زعيما لجميع جماهيرالشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم البرجوازية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطا ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم.
إن تعاليم النضال الطبقي التي طبقها ماركس على مسألة الدولة وعلى مسألة الثورة الاشتراكية تفضي لا محالة إلى الاعتراف بسيادة البروليتاريا السياسية، بديكتاتوريتها، أي بسلطتها التي لا تقتسمها مع أحد والتي تستند مباشرة إلى قوة الجماهير المسلحة. إن إسقاط البرجوازية لا يمكن أن يتحدد عن غير طريق تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة قادرة على قمع ما تقوم به البرجوازية حتما من مقاومة مسعورة وعلى تنظيم جميع الجماهير الكادحة والمستثمَرة من أجل النظام الإقتصادي الجديد.
إلاّ أن البروليتاريا بحاجة إلى سلطة الدولة، أي إلى تنظيم القوة المتمركزة، إلى تنظيم العنف سواء لقمع مقاومة المستثمِرين أم لقيادة جماهير السكان الغفيرة من فلاحين وبورجوازية صغيرة وأشباه بروليتاريين في أمر «ترتيب» الاقتصاد الاشتراكي.
إن الماركسية، إذ تربي حزب العمال، تربي طليعة البروليتاريا الكفء لأخذ السلطة وللسير بكل الشعب إلى الاشتراكية ولتوجيه وتنظيم النظام الجديد ولتكوين معلماً وقائداً وزعيماً لجميع الشغيلة والمستثمَرين في أمر تنظيم حياتهم الاجتماعية بدون البرجوازية وضد البرجوازية. أمّا الإنتهازية السائدة اليوم، فإنها بالعكس تربي من حزب العمال جماعة منفصلة عن الجماهير تمثل العمال ذوي الأجور العليا الذين «يدبرون أمورهم» بصورة لا بأس بها في ظل الرأسمالية ويبيعون مقابل طبيخ من العدس حق الإبن البكر، أي أنهم يتخلون عن دور زعماء الشعب الثوريين في النضال ضد البرجوازية.
«الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة» -إن نظرية ماركس هذه ترتبط ارتباطا وثيقا بكامل تعاليمه عن دور البروليتاريا الثوري في التاريخ. وذروة هذا الدور هي ديكتاتورية البروليتاريا، سيادة البروليتاريا سياسيا.
ولكن، إذا كانت البروليتاريا بحاجة إلى الدولة بوصفها منظمة خاصة للعنف ضد البرجوازية، فمن هنا ينبثق تلقائياَ الاستنتاج التالي: هل من الممكن إنشاء مثل هذه المنظمة دون أن يسبق ذلك تحطيم وتدمير آلة الدولة التي أنشأتها البرجوازية لنفسها؟ هذا هو الاستنتاج الذي يسير بنا «البيان الشيوعي» مباشرة إليه وعن هذا الاستنتاج يتحدث ماركس ملخصاَ خبرة سنوات 1848-1851.
2-حاصل الثورة
في مسألة الدولة التي نحن بصددها لخص ماركس خبرة ثورة سنوات 1848-1851 في كتابه «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت» بالعبارات التالية:
« ولكن الثورة عميقة. إنها ما تزال في رحلة عبر المطهر. إنها تقوم بمهمتها بصورة منهاجية. فحتى الثاني من ديسمبر سنة 1851» (يوم قيام لويس بونابرت بالانقلاب) «أتمت نصف عملها التحضيري، وهي تتم الآن النصف الآخر. في البدء تسير بالسلطة البرلمانية إلى حد الكمال ليصبح بإمكانها اسقاطها. والآن، وقد بلغت ذلك، تسير بالسلطة التنفيذية إلى حد الكمال، تصل بها إلى تعبيرها الصرف، تجعلها في عزلة، تعرضها بنفسها باعتبارها الموضوع الوحيد لكيما تركز ضدها جميع قوى التدمير» (التشديد لنا). «وعندما تتم الثورة هذا النصف الثاني من عملها التحضيري، عندئذ تنهض أوروبا على قدميها وتهتف فرحة: ما أحسن ما تحفر أيها الخلد الهرم!.
هذه السلطة التنفيذية مع منظمتها البيروقراطية والعسكرية الجسيمة، مع آلة دولتها، المعقدة جدا والمصطنعة، مع هذا الجيش من الموظفين من نصف مليون شخص إلى جانب جيش من الجند من نصف مليون أيضا، هذه العضوية الطفيلية المريعة التي تلف كامل جسد المجتمع الفرنسي كأنها الشبكة وتسد عليه جميع المسام، قد نشأت في زمن الملكية المطلقة عند غروب الإقطاعية، هذا الغروب الذي ساعدت هذه العضوية في تعجيله». إن الثورة الفرنسية الأولى قد طورت التمركز، «ولكنها إلى جانب ذلك وسعت نطاق وصلاحيات السلطة الحكومية وضاعفت عدد أعوانها. أمّا نابليون فقد بلغ بآلة الدولة هذه درجة الكمال». والملكية الشرعية وملكية يوليوز «لم تضيفا شيئا جديدا عدا تقسيم للعمل أكبر
وأخيرا وجدت الجمهورية البرلمانية نفسها في نضالها ضد الثورة مضطرة إلى أن تقوي، إلى جانب تدابير القمع، أدوات السلطة الحكومية وتمركزها. إن جميع الإنقلابات قد أتقنت هذه الآلة بدلاَ من أن تحطمها» (التشديد لنا). «فالأحزاب التي خلقت بعضها بعضا في النضال من أجل السيادة كانت ترى في الاستيلاء على صرح الدولة الهائل الغنيمة الرئيسية في حال إنتصارها» (كتابه «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت»، ص 98 و99، الطبعة الرابعة هامبورغ، سنة 1907).
في هذه المحاكمة الرائعة تخطو الماركسية خطوة كبرى إلى الأمام بالمقارنة مع «البيان الشيوعي». ففي «البيان الشيوعي» قد طرحت مسألة الدولة بصورة مجردة للغاية وبمفاهيم وتعابير عامة جدا. وهنا تطرح المسألة بصورة ملموسة ويستخلص الاستنتاج في منتهى الدقة والوضوح وبصورة حسية عملية تماما: جميع الثورات السابقة اتقنت آلة الدولة في حين ينبغي تحطيمها وتكسيرها.
إن هذا الاستنتاج هو الاستنتاج الرئيسي الأساسي في تعاليم الماركسية عن الدولة. وهذا الأمر الأساسي بالضبط، عدا أنه قد نسي بصورة تامة في الاحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية السائدة، قد شوهه تشويها (كما سنرى فيما يأتي) أبرز النظريين في الأممية الثانية، كاوتسكي.
في «البيان الشيوعي» لخصت دروس التاريخ العامة التي تجعلنا نرى في الدولة هيئة للسيادة الطبقية وتفضي بنا إلى استنتاج لا مندوحة عنه وهو أن البروليتاريا لا تستطيع إسقاط البرجوازية إذا لم تستولي في البدء على السلطة السياسية، إذا لم تحصل على السيادة السياسية، إذا لم تحول الدولة إلى «بروليتاريا منظمة بوصفها طبقة سائدة»، وأن هذه الدولة البروليتارية تبدأ بالاضمحلال فور انتصارها، لأن الدولة لا لزوم لها ولا يمكن أن توجد في مجتمع خال من التناقضات الطبقية. في «البيان الشيوعي» لم تطرح مسألة كيف ينبغي أن تتم –من نظر التطور التاريخي- هذه الاستعاضة عن الدولة البرجوازية بالدولة البروليتارية.
وهذه المسألة بالذات يطرحها ماركس ويحلها في سنة 1852. إن ماركس الأمين لفلسفته المادية الدياليكتيكية يأخذ كأساس الخبرة التاريخية التي أعطتها السنوات العظمى، سنوات ثورة 1848-1851. وتعاليم ماركس هنا، كشأنها أبداً، هي تلخيص للخبرة على ضوء نظرة فلسفية عميقة ومعروفة واسعة للتاريخ.
لقد طرحت مسألة الدولة بصورة ملموسة: كيف نشأت تاريخيا الدولة البرجوازية، آلو الدولة الضرورية لسيادة البرجوازية؟ ماذا طرأ عليها من تغير وتطور في مجرى الثورات البرجوازية وحيال النضالات المستقلة الملازمة للطبقات المظلومة؟ وما هي واجبات البروليتاريا إزاء آلة الدولة هذه؟
إن سلطة الدولة الممركزة الملازمة للمجتمع البرجوازي قد ظهرت في عهد سقوط الحكم المطلق. وثمة مؤسستان تميزان أكثر من غيرهما آلة الدولة هذه، هما الدواوينية والجيش النظامي. وقد تكلم ماركس وإنجلس في مؤلفاتهما مرارا وتكرارا مبينين ألوف الخيوط التي تربط هاتين المؤسستين بالبرجوازية بالضبط. وخبرة كل عامل تشرح هذه الصلة بمنتهى الجلاء والبلاغة. وتتعلم الطبقة العاملة بتجاربها المرة إدراك هذه الصلة، ولذلك تفهم الطبقة العاملة بهذه السهولة وتستوعب بهذا الثبات العلم الذي يبين حتمية هذه الصلة، العلم الذي أما أن ينكره الديموقراطيون صغار البرجوازيون عن جهل أو استهتار وأمّا أنهم يعرفون به «عموماً» باستهتار أكبر ناسين أن يستخلصوا منه الاستنتاجات العملية المناسبة.
الدواوينية والجيش النظامي هما «طفيلي» على جسد المجتمع البرجوازي، طفيلي ولدته التناقضات الداخلية التي تمزق هذا المجتمع، ولكنهما بالضبط ذلك «الطفيلي» الذي «يسد» مسام الحياة. غير أن الانتهازية الكاوتسكية السائدة اليوم في الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية تعتبر النظرة إلى الدولة كعضوية طفيلية، خاصة من خصائص الفوضوية على وجه الحصر. وبديهي أن هذا التشويه للماركسية ملائم للغاية لمصالح أولئك التافهين الضيقي الأفق الذين أدوا الاشتراكية إلى حد فضيحة منقطعة النظير وهي تبرير وتجميل الحرب الإمبريالية بتطبيقهم عليها مفهوم «الدفاع عن الوطن»، ولكن هذا هو، على كل حال، تشويه لا شك فيه.
عبر جميع الثورات البرجوازية التي شهدت أوروبا عددا عديدا منها منذ سقوط الاقطاعية، يجري تطوير وإتقان وتوطيد هذا الجهاز الدواويني والعسكري. فالبرجوازية الصغيرة، مثلا، هي التي تنجذب لجانب البرجوازية الكبيرة وتخضع لها لحد كبير عن طريق هذا الجهاز الذي يعطي الفئات العليا من الفلاحين وصغار الحرفيين والتجار وغيرهم مقاعد مريحة وهادئة ومحترمة نسبيا تجعل الجالسين فيها فوق الشعب. أنظروا، مثلا، ما جرى في روسيا في غضون نصف سنة تبعت 27 فبراير سنة 1917: كراسي الدواوين التي كانوا يفضلون إعطاءها فيما مضى لزمرة المائة السود قد غدت غنيمة يتهافت عليها الكاديت والمناشفة والاشتراكيون-الثوريون. لم يفكر هؤلاء في الجوهر بأية إصلاحات جدية، محاولين تأجيلها «حتى الجمعية التأسيسية» وتأجيل الجمعية التأسيسية شيئا فشيئا حتى نهاية الحرب! أمّا في أمر اقتسام الغنيمة، في أمر اشغال مناصب الوزراء ونواب الوزراء والمحافظين والخ. والخ.، فلم يتباطئوا ولم ينتظروا أي جمعية تأسيسية! إن لعبة التراكيب لقوام الحكومة لم تكن في الجوهر غير إفصاح عن اقتسام وإعادة إقتسام «الغنيمة» الجاري من أعلى إلى أسفل، في البلاد من أقصاها إلى أقصاها وفي كامل الجهاز الاداري المركزي والمحلي. والنتيجة، النتيجة الموضوعية لستة أشهر -من 27 فبراير حتى 27 غشت سنة 1917- لا تقبل جدالاً: الاصلاحات قد أجلت وتقاسم مقاعد الدواوين قد جرى و«أخطاء» التقاسم قد أُصلحت بإعادة التقاسم عدة مرات.
ولكن بمقدار ما تتكرر «إعادة تقاسم» الجهاز الدواويني بين مختلف أحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة (بين الكاديت والاشتراكيين-الديموقراطيين والمناشفة، إذا ما أخذنا روسيا مثلاً)، يتبين بصورة أوضح للطبقات المظلومة والبروليتاريا في مقدمتها عداء تجد جميع الطبقات المستحكم حيال المجتمع البرجوازي برمته . ومن هنا تجد جميع الأحزاب البرجوازية بما فيها الأكثر ديموقراطية ومنها «الديموقراطية الثورية» نفسها أمام ضرورة تشديد تدابير القمع الموجه ضد البروليتاريا الثورية وتعزيز جهاز القمع، أي آلة الدولة بالذات. ومجرى الأحداث هذا يحمل الثورة على «تركيز جميع قوى التدمير» ضد سلطة الدولة، يحملها على أن تضع أمامها لا مهمة تحسين آلة الدولة، بل مهمة تحطيمها والقضاء عليها.
إن ما دفع إلى طرح المهمة بهذا الشكل ليس المحاكمات المنطقية، بل مجرى الأحداث الواقعي، الخبرة الحية التي أعطتها سنوات 1848-1851. ومما يبين لنا مدى ثبات وقوف ماركس على قاعدة الواقعية من الخبرة التاريخية كونه لم يطرح بعد في سنة 1852 بصورة عملية المسألة التالية: بأي شيء يستعاض عن آلة الدولة هذه التي ينبغي القضاء عليها. ذلك لأن الخبرة لما تعط في ذلك الحين مادة لهذه المسألة التي طرحها التاريخ على بساط البحث فيما بعد، في سنة 1871. في 1852، لم يكن بإمكان المرء أن يقرر على أساس التتبع التاريخي وبدقة العلوم الطبيعية غير واقع أن الثورة البروليتارية قد واجهت مهمة «تركيز جميع قوى التدمير» ضد الدولة، مهمة «تحطيم» آلة الدولة.
رب سائل يسأل عما إذا كان من الصحيح تعميم خبرة وملاحظات واستنتاجات ماركس وتطبيقها على محيط أوسع من تاريخ فرنسا خلال ثلاث سنوات، 1848-1851؟ لتحليل هذه المسألة نذكر في بادئ الأمر بملاحظة لإنجلس، ثم ننتقل إلى بحث الوقائع.
لقد كتب إنجلس في مقدمته للطبعة الثالثة من كتاب «الثامن عشر من برومير»:
« فرنسا هي البلاد التي سار فيها دائما نضال الطبقات التاريخي، أكثر مما في أية بلاد أخرى، حتى نهايته الفاصلة. وفي فرنسا كانت تتشكل في الخطوط جلية إلى أقصى حد تلك الأشكال السياسية المتغيرة التي كان يتحرك ضمنها هذا النضال الطبقي والتي كانت تتجلى فيها نتائجه. وفرنسا التي كانت مراكز الإقطاعية في القرون الوسطى والتي كانت منذ عهد النهضة البلد النموذجي للمَلَكية الرتيبة المتجانسة، قد حطمت الإقطاعية في الثورة الكبرى وأقامت سيادة البرجوازية صافية صفاء كلاسيكيا لم يعهد في أي بلد من البلدان الأوروبية الأخرى. وفي هذه البلاد يظهر نضال البروليتاريا التي ترفع رأسها، ضد البرجوازية السائدة، بشكل حاد لا تعرفه البلدان الأخرى» (ص 4 من طبعة سنة 1907).
لقد شاخت الملاحظة الأخيرة ما دام ثمة انقطاع قد وقع منذ سنة 1871 في نضال البروليتاريا الفرنسية الثوري، رغم أن هذا الانقطاع، مهما كان طويلا، لا ينفي البتة احتمال أن فرنسا ستبرز في الثورة البروليتارية المقبلة باعتبارها البلد الكلاسيكي لنضال الطبقات حتى نهايته الفاصلة.
ولكن لنلق نظرة عامة على تاريخ البلدان المتقدمة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.إننا نرى أن العملية نفسها قد جرت بصورة أبطأ وبأشكال أكثر تنوعا وعلى مسرح أوسع جدا: من جهة، عملية تكوّن «السلطة البرلمانية» سواء في البلدان الجمهورية (فرنسا، أمريكا، سويسرا) أو في البلدان الملكية (انكلترا، ألمانيا لحد ما، إيطاليا والبلدان السكاندينافية، الخ.)، ومن الجهة الأخرى، عملية النضال من أجل السلطة بين مختلف أحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة التي كانت تقتسم وتعيد اقتسام «غنيمة» المقاعد في الدواوين مع بقاء أسس النظام البرجوازي هي هي، أخيرا، عملية اتقان وتوطيد «السلطة التنفيذية»، جهازها الدواويني والعسكري.
وما من شك في أن تلك هي السمات العامة للتطور الحديث كله للدول الرأسمالية بوجه عام. خلال ثلاث سنوات، 1848-1852، أظهرت فرنسا بشكل سريع وحاد ومركز نفس مجريات التطور الملازم للعالم الرأسمالي بأكمله.
والإمبريالية على الأخص –وهي عصر الرأسمال البنكي، عصر الاحتكارات الرأسمالية العملاقة، عصر صيرورة الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية- تظهر تعزز «آلة الدولة»لحد خارق واتساع جهازها الدواويني والعسكري اتساعا منقطع النظير من جراء تشديد القمع الموجه ضد البروليتاريا إن في البلدان الملكية أو في البلدان الأوسع حرية، أي البلدان الجمهورية.
إن التاريخ العالمي يدفع الآن دون شك، في نطاق أوسع بما لا يقاس من سنة 1852، إلى «تركيز جميع قوى» الثورة البروليتارية على «تدمير» آلة الدولة.
أما بم تستعيض عنها البروليتاريا فقد أعطت كومونة باريس مادة حافلة بالعبر في هذا الخصوص.
3-وضع ماركس للمسألة في سنة 1852*
في سنة 1907، نشر مهرينغ في مجلة «Neue Zeit» («نويه تسايت») (25،2،164) فقرات من رسالة وجهها ماركس إلى فيديميير في 5 مارس سنة 1852. وقد تضمنت الرسالة فيما تضمنت المحاكمة الرائعة التالية:
«وفيما يخصني ليس لي لا فضل اكتشاف الطبقات في المجتمع المعاصر ولا فضل اكتشاف صراعها. فقد سبقني بوقت طويل مؤرخون برجوازيون بسطوا التصور التاريخي لصراع الطبقات هذا، واقتصاديون برجوازيون بسطوا تركيب الطبقات الاقتصادي. وما أعطيته من جديد يتلخص في إقامة البرهان على ما يأتي: 1) أن وجود الطبقات لا يقترن إلاّ بمراحل معينة من تطور الإنتاج (historische Entwicklungsphasen der Produktion)، 2) أن النضال الطبقي يفضي بالضرورة إلى ديكتاتورية البروليتاريا، 3) أن هذه الديكتاتورية نفسها ليست غير الانتقال إلى القضاء على كل الطبقات وإلى المجتمع الخالي من الطبقات»
في هذه الكلمات تيسر لماركس أن يفصح بجلاء مدهش، أول، عنا يميز تعاليمه بصورة رئيسية وجذرية عن تعاليم مفكري البرجوازية المتقدمين والأكثر عمقا، وثانيا، عن كنه تعاليمه بشأن الدولة.
الأمر الرئيسي في تعاليم ماركس هو النضال الطبقي. هذا ما يقال وما يكتب بكثرة كثيرة. بيد أن هذا غير صحيح. وعن عدم الصحة هذه تنتج، الواحد بعد الآخر، التشويهات الانتهازية للماركسية وينتج تزويرها بحيث تصبح مقبولة للبرجوازية. ذلك لأن التعاليم بشأن النضال الطبقي لم توضع من قبل ماركس، وهي بوجه عام مقبولة للبرجوازية. ومن لا يعرف نضال الطبقات ليس بماركسي بعد، وقد يظهر أنه لم يخرج بعد عن نطاق التفكير البرجوازي والسياسة البرجوازية. إن حصر الماركسية في التعاليم بشأن النضال الطبقي يعني بتر الماركسية وتشويهها وقصرها على ما تقبله البرجوازية. ليس بماركسي غير الذي يعمم اعترافه بالنضال الطبقي على الاعتراف بديكتاتورية البروليتاريا. وهذا ما يميز بصورة جوهرية الماركسي عن البرجوازي الصغير (وحتى الكبير) العادي. وعلى هذا المحك ينبغي التحقيق من الفهم الحق للماركسية والاعتراف الحق بها. ولا غرو إذن، عندما وصل تاريخ أوروبا عمليا بالطبقة العاملة إلى هذه المسألة، إذا كان جميع الانتهازيين والإصلاحيين ناهيك عن جميع «الكاوتسكيين» (وهم أناس يترددون بين الإصلاحية والماركسية) قد أصبحوا تافهين يرثى لهم وديموقراطيين صغار بورجوازيين ينكرون ديكتاتورية البروليتاريا. فكراسة كاوتسكي «ديكتاتورية البروليتاريا» التي صدرت في غشت سنة 1917، أي بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب بوقت طويل، هي نموذج لتشويه الماركسية على نمط صغار البرجوازيين وللتبرؤ منها بحطة فعلا من الاعتراف بها بالقول نفاقا (راجع كراسي: «الثورة الاشتراكية والمرتد كاوتسكي»، بتروغراد وموسكو، سنة 1918).
إن الانتهازية المعاصرة بشخص ممثليها الرئيسي، الماركسي السابق كاوتسكي، تنطبق تماما على الوصف الذي أعطاه ماركس للموقف البرجوازي، لأن هذه الانتهازية تحصر نطاق الاعتراف بالنضال الطبقي في إطار العلاقات البرجوازية. (وضمن هذا النطاق، في إطاره، ما من ليبرالي مثقف يرفض «مبدئيا» الاعتراف بالنضال الطبقي!). إن الانتهازية لا توصل الاعتراف بالنضال الطبقي حتى الأمر الرئيسي بالذات، حتى مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، حتى مرحلة إسقاط البرجوازية والقضاء التام عليها. وفي الواقع لا بد لهذه المرحلة من أن تكون مرحلة نضال طبقي لا نظير لشدته، مرحلة تتخذ أشكاله فيها حدة منقطعة النظير، وبالتالي لا بد لدولة هذه المرحلة من أن تكون دولة ديموقراطية من نوع جديد (لأجل البروليتاريين والمعدمين بوجه عام) وديكتاتورية من نوع جديد (ضد البرجوازية).
وبعد. لن يتفهم فحوى تعاليم ماركس بشأن الدولة إلاّ أولئك الذين أدركوا أن ديكتاتورية الطبقة الواحدة ضرورية ليس فقط لكل مجتمع طبقي بوجه عام، ليس فقط للبروليتاريا التي أسقطت البرجوازية، بل أيضا لمرحلة تاريخية كاملة تفصل الرأسمالية عن «المجتمع اللا طبقي»، عن الشيوعية. إن أشكال الدولة البرجوازية في منتهى التنوع، ولكن كنهها واحد: فمجتمع هذه الدول هي بهذا الشكل أو ذاك وفي نهاية الأمر ديكتاتورية البرجوازية على التأكيد. ويقينا أن الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية لا بد وأن يعطي وفرة وتنوعا هائلين من الأشكال السياسية، ولكن فحواها سيكون لا محالة واحدا: ديكتاتورية البروليتاريا.
الفصل الثالث
الدولة والثورة.
خبرة كومونة باريس سنة 1871. تحليل ماركس
1-بم تتلخص البطولة في محاولة الكومونيين؟ من المعروف أن ماركس قد حذر العمال الباريسيين قبل الكومونة بعدة أشهر، في خريف سنة 1870، مبرهنا أن محاولة إسقاط الحكومة تكون حماقة اليأس. ولكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في مارس سنة 1871، وعندما قبلها هؤلاء وغدا الإنتفاض أمرا واقعا، حيا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذير الشؤم. لم يتشبث ماركس بشجب دعي لحركة «جاءت في غير أوانيها» على غرار المرتد الروسي السيئ الشهرة عن الماركسية بليخانوف الذي كتب في نوفمبر سنة 1905 مشجعا نضال العمال والفلاحين، ثم، بعد ديسمبر سنة 1905، أخذ يصرخ على نمط الليبراليين: «ما كان علينا حمل السلاح».
ولكن ماركس لم يكتف بالإعجاب ببطولة الكومونيين الذين «هبوا لمهاجمة السماء» حسب تعبيره. ففي هذه الحركة الثورية الجماهيرية، وإن كانت لم تبلغ الهدف، قد رأى خبرة تاريخية ذات أهمية كبرى، خطوة معينة إلى الأمام تخطوها الثورة البروليتارية العالمية، خطوة عملية أهم من مئات البرامج والمحاكمات. وقد وضع ماركس نصب عينيه مهمة تحليل هذه الخبرة واستخلاص الدروس التكتيكية منها وإعادة النظر في نظريته على أساس هذه الخبرة.
«فالتعديل» الوحيد الذي اعتبر ماركس من الضروري إدخاله على «البيان الشيوعي» قد استوحاه من خبرة الكومونيين الباريسيين الثورية.
إن آخر مقدمة لطبعة ألمانية جديدة من «البيان الشيوعي» وقعها مؤلفاه معا تحمل تاريخ 24 يونيو سنة 1872. وفي هذه المقدمة يقول المؤلفان كارل ماركس وفريدريك إنجلس أم برنامج «البيان الشيوعي» «قد شاخ اليوم في بعض أماكنه».
« وبوجه خاص برهنت الكومونة أن «الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتفي بالاستيلاء على آلة الدولة جاهزة وأن تحركها لأهدافها الخاصة» …»
والكلمات الموضوعة ضمن القوسين المزدوجين في هذا المقتطف قد اقتبسهما المؤلفات من كتاب ماركس: «الحرب الأهلية في فرنسا».
وهكذا، إن ماركس وإنجلس قد اعتبرا درسا من الدروس الأساسية الرئيسية التي أعطتها كومونة باريس على درجة من الجسامة بحيث أدخلاه في «البيان الشيوعي» باعتباره تعديلا جوهريا.
ومما هو بليغ في مدلوله أن الإنتهازيين قد شوهوا هذا التعديل الجوهري بالذات، وأن تسعة أعشار قراء «البيان الشيوعي»، إن لم يكن تسعة وتسعين بالمائة منهم، يجهلون التأكيد على معناه. وسنتناول هذا التشويه بالتفصيل فيما يأتي، في فصل خاص بالتشويهات. أمّا هنا فحسبنا أن نشير إلى أن «المفهوم» المبتذل الشائع لعبارة ماركس المعروفة التي أوردناها يتلخص في زعم مفاده أن ماركس يؤكد هنا فكرة التطور البطيء خلافا للاستيلاء على السلطة وهلم جرا.
والحقيقة هي العكس تماما. تتلخص فكرة ماركس في أن واجب الطبقة العاملة هو تحطيم «آلة الدولة الجاهزة» وكسرها، لا الإكتفاء بمجرد الاستيلاء عليها.
ففي الثاني عشر من أبريل سنة 1871، أي في أيام الكومونة بالذات، كتب ماركس إلى كوغلمان:
« إذا ما ألقيت نظرة إلى الفصل الأخير من كتابي «18 برومير» رأيت أني أعلنت أن المحاولة التالية للثورة الفرنسية يجب أن تكون لا نقل الآلة البيروقراطية العسكرية من يد إلى أخرى كما كان يحدث حتى الآن، بل تحطيمها» (التشديد لماركس. وفي الأصل كلمة zerbrechen). «وهذا هو الشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقا في القارة. وفي هذا بالذات تتلخص محاولة رفاقنا الباريسيين الأبطال» (ص 709 في «Neue Zeit»، 20، 1، سنة 1901-1902). (صدرت رسائل ماركس إلى كوغلمان بالروسية فيما لا يقل عن طبعتين أشرفت على تحرير احداهما وقدمت لها).
في هذه الكلمات: «تحطيم الآلة الدولة البيروقراطية العسكرية» أعرب بإيجاز عن درس الماركسية الرئيسي بشأن واجبات البروليتاريا في الثورة حيال الدولة. وهذا الدرس بالذات لم يقتصر «تأويل» الماركسية الكاوتسكي السائد على نسيانه تماماً بل وشوهه تشويها!
وفيما يخص الفقرة التي يرجع إليها ماركس من «18 برومير» فقد أوردناها كاملة فيما تقدم.
وتنبغي الإشارة بوجه خاص إلى نقطتين من فقرة ماركس المذكورة. أولا، أنه يقتصر استنتاجه على القارة. وقد كان هذا مفهوما سنة 1871، عندما كانت إنجلترا ما تزال نموذجا لبلاد رأسمالية صرف، ولكنها خالية من الطغمة العسكرية ولحد بعيد من البيروقراطية. ولذا استثنى ماركس إنجلترا حيث كانت الثورة، بما في ذلك الثورة الشعبية، تبدو آنذاك ممكنة، وكانت ممكنة بدون تحطيم «آلة الدولة الجاهزة» كشرط أولي.
في الوقت الحاضر، في سنة 1917، في عصر أول حرب إمبريالية كبرى، يسقط تحديد ماركس هذا. فإنجلترا وأمريكا، أكبر وآخر ممثلي «الحرية» الأنجلو-سكسونية في العالم قاطبة، بمعنى انعدام الطغمة العسكرية والبيروقراطية، قد انزلقتا بصورة تامة في المستنقع الأوروبي العام، المستنقع القذر والدامي للمؤسسات البيروقراطية والعسكرية التي تخضع لنفسها كل شيء، وتخمد كل شيء. «فالشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقاً» هو، في الوقت الحاضر، في إنجلترا وأمريكا كذلك، تحطيم وتدمير «آلة الدولة الجاهزة» (التي أعدت في هذين البلدين خلال سنوات 1914-1917 لدرجة الكمال «الأوروبي»، الامبريالي العام).
ثانيا، تستحق انتباها خاصا ملاحظة ماركس العميقة منتهى العمق القائلة أن تحطيم آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية هو «الشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقا». ويبدو مفهوم الثورة «الشعبية» هذا مستغربا على لسان ماركس. ويبدو أن بإمكان البليخانوفيين والمناشفة الروس، اتباع ستروفه هؤلاء الذين يريدون أن يُعتبروا ماركسيين، فقد شوهوا الماركسية تشويها ليبراليا حقيرا بحيث لم يعودوا يرون معه غير معارضة الثورة البرجوازية بالثورة البروليتارية، وهم فوق ذلك يفهمون هذا التعارض بجمود ما بعده جمود.
إذا ما أخذنا على سبيل المثل ثورات القرن العشرين فلا بد من الاعتراف طبعا بأن الثورتين البرتغالية والتركية هما على حد سواء ثورتان برجوازيتان. ولكن لم تكن لا هذه ولا تلك ثورة «شعبية» لأن جمهور الشعب، أكثريته الكبرى، لم تبرز بصورة ملحوظة، نشيطة ومستقلة، بمطالبها الخاصة الاقتصادية والسياسية لا في هذه الثورة ولا في تلك. وبالعكس فإن الثورة البرجوازية الروسية في سنوات 1905-1907، وإن كانت لم تصب من النجاحات «الباهرة» ما أصابته أحيانا الثورتان البرتغالية والتركية، قد كانت دون شك «شعبية حقا»، لأن جمهور الشعب، أكثريته، فئاته الاجتماعية «السفلى» البعيدة الغور والرازحة تحت وطأة الظلم والاستثمار، قد نهضت مستقلة وطبعت مجرى الثورة بأكمله بطابع مطالبها هي، بطابع محاولتها هي لأن تبني على طريقتها مجتمعا جديدا مكان المجتمع القديم الجاري هدمه.
في سنة 1871، لم تكن البروليتاريا تشكل أكثرية الشعب في أي بلد من بلدان القارة الأوروبية. لم تكن الثورة تستطيع أن تكون ثورة «شعبية» تجذب للحركة الأكثرية حقا، إلاّ إذا شملت البروليتاريا والفلاحين. فهاتان الطبقتان كانتا تؤلفان «الشعب» في ذلك الحين. ويوحد هاتين الطبقتين واقع أن «آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية» تظلمهما، تضغط عليهما وتستثمرهما. وتحطيم هذه الآلة وكسرها هو مصلحة «الشعب» الحقيقية، مصلحة أكثريته، مصلحة العمال وأكثرية الفلاحين –هو «الشرط الأولي» للتحالف الحر بين فقراء الفلاحين والبروليتاريا؛ وبدون هذا التحالف لا تكون الديموقراطية وطيدة ولا يمكن التحول الاشتراكي.
ومن المعروف أن كومونة باريس كانت تشق طريقها إلى مثل هذا التحالف، وهي لم تبلغ الهدف بحكم جملة من أسباب ذات طابع داخلي وخارجي.
إذن، فعندما تكلم ماركس عن «الثورة الشعبية حقا»، راعى ببالغ الدقة النسبة الفعلية بين الطبقات في أكثرية دول القارة الأوروبية في سنة 1871، دون أن ينسى للحظة خصائص البرجوازية الصغيرة (الخصائص التي كثيرا ما تكلم عنها وأكثر عنها الكلام). وقد قرر، من الجهة الأخرى، أن «تحطيم» آلة الدولة نفرضه مصالح العمال ومصالح الفلاحين على السواء وأنه يوحدهم ويضع أمامهم واجبا مشتركا هو القضاء على «الطفيلي» والاستعاضة عنه بشيء ما جديد.
بأي شيء على وجه التحقيق؟
2- بم يستعاض عن آلة الدولة المحطمة؟
في سنة 1847، لم يعط ماركس في «البيان الشيوعي» عن هذا السؤال غير جواب مجرد جدا، أو بالأصح، أعطى جوابا يشير إلى المهام لا إلى طريق حلها. فقد كان جواي «البيان الشيوعي» هكذا: الاستعاضة عنها «بتنظيم البروليتاريا في طبقة سائدة»، «بالظفر بالديموقراطية».
لم ينسق ماركس مع الخيال وانتظر من خبرة الحركة الجماهيرية أن تجيب على السؤال: ما هي الأشكال الملموسة التي سيتخذها تنظيم البروليتاريا بوصفها طبقة سائدة وبأية صورة سيقترن هذا التنظيم مع «بالظفر بالديموقراطية» الأتم والأكمل.
وفي كتاب «الحرب الأهلية في فرنسا» يحلل ماركس أدق التحليل خبرة الكومونة على ضآلة هذه الخبرة. فلنورد أهم الفقرات من هذا المؤلف:
في القرن التاسع عشر، تطورت «سلطة الدولة المتمركزة مع أجهزتها المنتشرة في كل مكان: الجيش النظامي والشرطة والبيروقراطية والاكليروس والفئة القضائية»، هذه السلطة المتحدرة من القرون الوسطى. ومع اشتداد التناحر الطبقي بين رأس المال والعمل، «كانت سلطة الدولة تتخذ أكثر فأكثر طابع سلطة عامة لظلم العمل، طابع أداة للسيطرة الطبقية. وبعد كل ثورة تشكل خطوة معينة إلى الأمام خطاها النضال الطبقي يتجلى طابع الاضطهاد المحض لسلطة الدولة على نحو أوضح فأوضح». وبعد ثورة سنتي 1748-1849، غدت سلطة الدولة «آلة قومية لحرب الرأسمال ضد العمل». وجاءت الإمبراطورية الثانية توطد ذلك.
«كانت الكومونة النقيض المباشر للإمبراطورية». «فقد كانت شكلا معينا» «لجمهورية ينبغي لها أن تزيل لا الشكل الملكي للحكم الطبقي فحسب، بل أيضا الحكم الطبقي ذاته»
بمَ على وجه التدقيق، ظهر هذا الشكل «المعين» للجمهورية البروليتارية، الاشتراكية؟ وكيف كانت الدولة التي شرعت بتأسيسها؟
« كان أول مرسوم أصدرته الكومونة يقضي بإلغاء الجيش النظامي والاستعاضة عنه بالشعب المسلح»
وهذا المطلب يرد الآن في برامج جميع الأحزاب التي تريد أن تدعي اشتراكية. ولكن تظهر قيمة برامجها بالشكل الأوضح من سلوك الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة عندنا، إذ أنهم تخلوا في الواقع عن تنفيذ هذا المطلب عقب ثورة 17 فبراير بالذات!
« لقد تشكلت الكومونة من نواب البلدية الذين تم انتخابهم عن طريق الاقتراع العام في مختلف دوائر باريس. كانوا مسؤولين وكان يمكن سحبهم في أي وقت كان.وكانت أكثريتهم، بطبيعة الحال، من العمال أو من ممثلي الطبقة العاملة المعترف بهم
والشرطة التي كانت حتى ذلك الحين أداة في يد الحكومة المركزية جردت في الحال من جميع وظائفها السياسية وحولت إلى هيئة للكومونة مسؤولة يمكن تبديلها في أي وقت كان… وهكذا كان الحال أيضا بالنسبة لموظفي سائر فروع الإدارة…ومن فوق إلى أسفل، ابتداء من أعضاء الكومونة كان يتعين أداء الخدمة العامة لقاء أجرة تساوي أجرة عامل. وقد أزيلت جميع الامتيازات وعلاوات التمثيل التي كان يتقاضاها كبار موظفي الدولة مع زوال هؤلاء الموظفين… وبعد أن زالت الكومونة الجيش النظامي والشرطة، وهما أداتا الحكم المادي في يد الحكومة القديمة، أخذت في الحال تكسر أداة الاستعباد الروحي، قوة الكهنة… وفقد الموظفون القضائيون استقلالهم الصوري… وأصبح من المترتب عليهم أن يُنتخبوا علنا وأن يكونوا مسؤولين وقابلين للسحب».
وهكذا يبدو أن الكومونة لم تستعيض عن آلة الدولة المحطمة «إلاّ» بديموقراطية أتم: القضاء على الجيش النظامي، مبدأ انتخاب وسحب جميع الموظفين. ولكن هذه الـ«الا» تعني في حقيقة الأمر تبديلا هائلا لنوع من مؤسسات بنوع آخر يختلف اختلافا مبدئيا. نحن هنا في الحقيقة أمام حالة من حالات «تحول الكمية إلى كيفية»: فالديموقراطية المطبقة بأتم وأوفى شكل يمكن تصوره عموما تتحول من ديموقراطية برجوازية إلى ديموقراطية بروليتارية، من دولة (= قوة خاصة لقمع طبقة معينة) إلى شيء ليس الدولة بمفهومها.
إن قمع البرجوازية ومقاومتها كان ما يزال أمرا ضروريا وكانت هذه الضرورة تفرض ذاتها على الكومونة بوجه خاص. فأحد أسباب انهزامها يتلخص في كونها لم تقم بذلك بالحزم المطلوب. ولكن هيئة القمع تغدو في هذه الحالة أغلبية السكان، لا الأقلية كما كان الحال على الدوام في عهد نظام العبودية وفي عهد نظام القنانة وفي عهد عبودية العمل المأجور. وبما أن أغلبية الشعب تمارس بنفسها قمع ظالميها فلا تبقى ثمة حاجة إلى «قوة خاصة» للقمع! وبهذا المعنى تأخذ الدولة بالإضمحلال. وبدلا من المؤسسات الخاصة العائدة للقيام بذلك بصورة مباشرة؛ وبقدرما يتخذ القيام بوظائف سلطة الدولة طابعا شعبيا أشمل بمقدار ما تقل الحاجة إلى هذه السلطة.
إن التدبير الذي اتخذته الكومونة وأشار إليه ماركس هو رائع جدا بهذا الصدد: إلغاء كل علاوات التمثيل، إلغاء جميع امتيازات الموظفين في الدولة إلى مستوى «أجرة العامل». وبهذا بالذات يتجلى بأوضح ما يكون الإنعطاف من الديموقراطية البرجوازية إلى الديموقراطية البروليتارية، من ديموقراطية الظالمين إلى ديموقراطية الطبقات المظلومة، من الدولة بوصفها «قوة خاصة» لقمع طبقة معينة إلى قمع الظالمين بمجموع قوة أغلبية الشعب: العمال والفلاحين.وهنا، في هذه النقطة بالذات من مسألة الدولة، التي هي الأبرز ولعلها الأهم بين جميع النقاط، بلغ نسيان دروس ماركس حده الأقصى! لا ينبسون ببنت شفة عن هذا الأمر فيما ينشرونه من تعليقات مبسطة عديدة لا تحصى. فمن «المألوف» لزوم الصمت عن ذلك كما يلزم الصمت عن «سذاجة» عفا عليها الزمن مثلما «نسي» المسيحيون، عندما غدا دينهم دين الدولة، «سذاجات» مسيحية العهد الأول مع روحها الثورية الديموقراطية.
تخفيض رواتب كبار الموظفين في جهاز الدولة يبدو «مجرد» مطلب من مطالب ديموقراطية ساذجة، بدائية. إن أحد «مؤسسي» الانتهازية الحديثة، الإشتراكي-الديموقراطي سابقا، إد. برنشتين، قد لاك مرارا وكرر التهكمات البرجوازية الحقيرة على الديموقراطية «البدائية». فهو كشأن جميع الانتهازيين وكشأن الكاوتسكيين الحاليين لم يفهم بتاتا، أولا، أن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية يستحيل بدون «عودة» ما إلى الديموقراطية «البدائية» (وإلاّ كيف يمكن الانتقال إلى قيام أكثرية السكان والسكان عن آخرهم بوظائف الدولة؟)، وثانيا، أن «الديموقراطية البدائية» على أساس الرأسمالية والحضارة الرأسمالية تختلف عن الديموقراطية البدائية في العهود البدائية أو عهود ما قبل الرأسمالية. فقد خلقت الحضارة الرأسمالية الإنتاج الضخم، والمعامل والسكك الحديدية والبريد والتلفون وما شاكل ذلك، وعلى هذا الأساس بلغت الأكثرية الكبرى من وظائف «سلطة الدولة» القديمة درجة من البساطة وغدا بالإمكان تحويلها إلى عمليات من التسجيل والتدوين والتثبيت على درجة من السهولة بحيث تصبح تماما في منال جميع الذين يحسنون القراءة والكتابة، بحيث يمكن تماما القيام بهذه الوظائف مقابل «أجرة عامل» المعتادة، ويمكن ويجب تجريد هذه الوظائف من أي ظل لطابع امتياز و«ترؤس».
انتخاب جميع الموظفين دون استثناء وإمكانية سحبهم في كل لحظة وإنقاص رواتبهم حتى «أجرة العامل» المعتادة، هذه التدابير الديموقراطية البسيطة و«البديهية» التي توحد تماما مصالح العمال وأكثرية الفلاحين هي في الوقت نفسه جسر الإنتقال من لرأسمالية إلى الإشتراكية. وهذه التدابير تتعلق بإعادة تنظيم الدولة، بإعادة تنظيم المجتمع من الناحية السياسية الصرف ولكنها لا تكسب بطبيعة الحال كل مغزاها وأهميتها إلاّ في حالة تحقيق أو تحضير «مصادرة ملكية مغتصبي الملكية»، أي تحويل الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج إلى ملكية إجتماعية.
وقد كتب ماركس:
«لقد جعلت الكومونة من ذلك الشعار الذي نادت به جميع الثورات البرجوازية –الحكومة القليلة النفقات- حقيقة، وذلك بإلغاء أكبر بابين من أبواب النفقات: الجيش النظامي وسلك الموظفين».
ليس غير نفر ضئيل من الفلاحين والفئات البرجوازية الصغيرة الأخرى يستطيع أن «يترقى» و«يصبح من الناس المحترمين» بالمعنى البرجوازي للكلمة، أي أن يصبح أمّا من الميسورين، البرجوازيين، وأمّا من الموظفين الميسورين المميزين. أمّا الأكثرية الكبرى من الفلاحين في أي بلد رأسمالي يوجد فيه الفلاحون (ومثل هذه البلدان الرأسمالية هي الأكثرية) فهي تلاقي الظلم من الحكومة وهي متعطشة إلى إسقاطها، متعطشة إلى حكومة «رخيصة». ولا يستطيع تحقيق ذلك غير البروليتاريا، وهي بتحقيقها لذلك تخطو في الوقت نفسه خطوة نحو إعادة تنظيم الدولة على أساس الاشتراكي.
3-إلغاء البرلمانية
لقد كتب ماركس: «وكان يراد بالكومونة أن تكون لا هيئة برلمانية، بل هيئة عاملة تتمتع بالسلطتين التشريعية والتنفيذية في الوقت عينه
وبدلا من البت مرة كل ثلاث سنوات أو ست في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة المسيطرة يجب أن يمثل ويقمع (ver-und zertreten) الشعب في البرلمان، كان يجب على حق الانتخاب العام، بدلا من ذلك، أن يخدم الشعب، المنظم في الكومونة قصد البحث لمؤسسته عن عمال ومراقبين ومحاسبين، كما يخدم حق الانتخاب الفردي لهذا الغرض أياً كان من أرباب العمل».
إن هذا النقد الرائع للبرلمانية، المكتوب في سنة 1871، قد غدا الآن هو الآخر، بفضل سيطرة الاشتراكية-الشوفينية والانتهازية، وفي عداد «الكلمات المنسية» من الماركسية. أن الوزراء والبرلمانيين، وعلى هذا الأساس المعقول لحد خارق نعتوا «بالفوضوية»كل انتقاد للبرلمانية!! فلا غرو إذا كانت بروليتاريا البلدان البرلمانية «الطليعية» تشمئز من رؤية «الاشتراكيين» من أمثال شيدمان ودافيد وليغين وسامبا ورينوديل وهندرسون وفانرفيلده وستاونينغ وبرانتينغ وبيسولاتي وأضرابهم وشركاهم وتميل أكثر فأكثر بعواطفها إلى السينديكالية الفوضوية، رغم أن هذه كانت شقيقة الانتهازية.
بيد أن الدياليكتيك الثوري لم يكن قط في نظر ماركس عبارة فارغة، على الموضة، لم يكن مسبحة للطقطقة كما صيّره بليخانوف وكاوتسكي وأضرابهما. فكان ماركس يحسن القطيعة مع الفوضوية دونما إشفاق لعجزها عن الإستفادة حتى من «حظيرة» البرلمانية البرجوازية ولا سيما حينما يكون من البين عدم وجود وضع ثوري، ولكنه في الوقت نفسه قد أحسن كذلك انتقاد البرلمانية انتقادا بروليتاريا ثوريا حقا.
البت مرة كل عدة سنوات في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة السائدة سيقوم بقمع الشعب في البرلمان، -هذا هو الجوهر الحقيقي للبرلمانية البرجوازية، ليس فقط في المَلكيات البرلمانية الدستورية، بل كذلك في الجمهوريات الأوسع ديموقراطية.
ولكن إذا ما طرحت مسألة الدولة، وإذا ما نظر المرء إلى البرلمانية على أنها مؤسسة من مؤسسات الدولة، من وجهة نظر مهام البروليتاريا في هذا الحقل، فأين المخرج من البرلمانية؟ وكيف يمكن الاستغناء عنها؟
لا بد لنا من أن نقول وأن نكرر القول: أن دروس ماركس القائمة على دراسة الكومونة قد نسيت لحد جعل «الاشتراكي-الديموقراطي» الحالي (اقرأ: خائن الاشتراكي الحالي) لا يفهم بتاتا أي انتقاد للبرلمانية غير الانتقاد الفوضوي أو الرجعي.
المخرج من البرلمانية ليس بطبيعة الحال في إلغاء المؤسسات التمثيلية والمبدأ الانتخابي، بل في تحويل المؤسسات التمثيلية من ندوات للثرثرة إلى مؤسسات «عاملة». «كان يراد بالكومونة أن تكون لا هيئة برلمانية، بل هيئة تتمتع بالسلطتين التشريعية والتنفيذية في الوقت عينه».
مؤسسة «غير برلمانية، بل مؤسسة
عاملة». ‘ن هذا القول قد فقأ عيون البرلمانيين المعاصرين و«كلاب الصالونات» البرلمانية للاشتراكية-الديموقراطية بالذات! امعنوا النظر في أي بلد برلماني من أمريكا حتى سويسرا ومن فرنسا حتى انجلترا والنروج وغيرها، تروا أن عمل «الدولة» الحقيقي يجري وراء الكواليس وتنفذه الدواويني والمكاتب وهيئات الأركان. ففي البرلمانات يكتفون بالهذر بقصد معين هو خداع «العامة». وهذا صحيح لدرجة أن جميع سوآت البرلمانية هذه قد برزت حالا حتى في الجمهورية الروسية، وهي جمهورية برجوازية ديموقراطية، قبل أن يتسنى لها تكوين برلمان حقيقي. فأبطال البرجوازية الصغيرة المتعفنة من أضراب سكوبيليف وتسيريتيلي وتشيرنوف وأفكسنتييف قد استطاعوا تقبيح السوفييتات أيضا على نمط البرلمانية البرجوازية وذلك بجعلها ندوات للهذر الفارغ. إن السادة الوزراء «الاشتراكيين» يخدعون في السوفييتات الفلاحين السريعي التصديق بطنين عباراتهم وقراراتهم. وفي الحكومة تتغير المشاهد دون انقطاع، من جهة، ليجلس بالتناوب على «مائدة» المقاعد المدرارة والمشرفة أكبر عدد ممكن من الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، ومن الجهة الأخرى، بقصد «تحويل أنظار» الشعب. أمّا في الدواوين وفي مقرات الأركان «فينهمكون» في أعمال «الدولة»!
لأمد قريب كتبت جريدة «ديلو نارودا»، لسان حال حزب «الاشتراكيين-الثوريين» الحاكم، معترفة في مقال افتتاحي لهيئة التحرير –معترفة بقحة أعضاء «البيئة الطيبة» التي يتعاطى فيها «الجميع» الدعارة السياسية- بأن جهاز الموظفين بأكمله ظل في الجوهر ودونما تغيير حتى في الوزارات العائدة «للاشتراكيين» (ولا مؤاخذة على هذا التعبير!) وبأنه يعمل على النمط القديم ويعرقل «بكل حرية» المبادرات الثورية! وعلى فرض أن هذا للاعتراف لم يوجد، أفلا يبرهن على ذلك واقع اشتراك الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة الفعلي في الحكومة؟ والبعيد الدلالة هنا واقع وحيد، هو أن السادة تشيرنوف وروسانوف وزينزينوف وأضرابهم من محرري «ديلو نارودا» الموجودين بجمعية الديموقراطيين الدستوريين (الكاديت) في الوزارة قد فقدوا الحياء لحد غدوا معه لا يستحون من أن يعلنوا إلى الملأ دون أن تعلو وجوههم حمرة الخجل كأنما يعلنون أمرا تافها، إن كل شيء يجري على النمط القديم «عندهم» في الوزارات!! العبادة الديموقراطية الثورية لخداع سذج الأرياف، ومماطلات الدواوين البيروقراطية «لإرضاء» الرأسماليين-هذا هو فحوى الإئتلاف «الشريف».
لقد استعاضت الكومونة عن برلمانية المجتمع البرجوازي المرتشية والمتعفنة بمؤسسات لا تنحط فيها حرية الرأي والبحث إلى خداع، لأنه يتوجب على البرلمانيين أن يعملوا هم أنفسهم، أن ينفذوا قوانينهم بأنفسهم، أن يتحققوا بأنفسهم من نتائجها العملية، أن يقدموا الحساب مباشرة لناخبيهم. تبقى المؤسسات التمثيلية، ولكن البرلمانية باعتبارها نظاما خاصا، باعتبارها فصلا للعمل التشريعي عن التنفيذي، باعتبارها وضعا ممتازا للنواب، تنعدم هنا. لا يمكننا أن نتصور الديموقراطية، وحتى الديموقراطية البروليتارية، بدون مؤسسات تمثيلية؛ ولكن يمكننا ومن واجبنا أن نتصورها بدون البرلمانية إذا لم يكن انتقاد المجتمع البرجوازي في نظرنا مجرد عبارات فارغة، وإذا كان طموحنا إلى إسقاط سيطرة البرجوازية صادقا وجديا، لا عبارة «انتخابية» لتصيد أصوات العمال كما هو حال المناشفة والاشتراكيين-الثوريين، كما هو حال شيدمان وليغين وسامبا وفانرفيلده، ومن لف لفهم.
والبليغ أبلغ الدلالة أن ماركس، عندما تكلم عن وظائف أولئك الموظفين الذين تحتاج إليهم الكومونة وكذلك الديموقراطية البروليتارية، أخذ للمقارنة المستخدمين عند «أي كان من أرباب العمل»، أي معملا رأسماليا معتادا بما فيه من «عمال ومراقبين ومحاسبين».
إن ماركس براء كليا من الطوباوية، بمعنى أنه لا يختلق، لا يتخيل مجتمعا «جديدا». كلا. يدرس، كما يدرس مجرى التاريخ الطبيعي، ولادة المجتمع الجديد من القديم وأشكال الانتقال من هذا إلى ذاك. وهو يأخذ الخبرة العملية للحركة البروليتارية الجماهيرية، ويسعى ليستخلص منها الدروس العملية. وهو «يتعلم» من الكومونة على غرار جميع المفكرين الثوريين العظام الذين لم يتهيبوا التعلم من خبرة الحركات الكبرى التي قامت بها الطبقة المظلومة ولم يلقوا عليها «المواعظ» بعجرفة المتزاهي بعمله (على غرار موعظة بليخانوف: «ما كان ينبغي حمل السلاح» أو موعظة تسيرتيلي: «من واجب الطبقة أن تلزم حدها»).
لا يمكن أن تطرح مسألة القضاء على الدواوينية دفعة واحدة، وفي كل مكان وبصورة تامة. إن هذا من الطوباويات. ولكن تكسير الآلة الدواوينية القديمة دفعة واحدة والشروع دونما إبطاء ببناء آلة جديدة تمكن من القضاء بصورة تدريجية على واجب البروليتاريا الثورية المباشر.
تبسط الرأسمالية وظائف إدارة «الدولة»، وهي تمكن من حصر الأمر كله في منظمة البروليتاريين (بوصفهم الطبقة السائدة)، التي تستأجر باسم المجتمع كله «العمال والمراقبين والمحاسبين».
نحن لسنا طوبويين. نحن لا «نحلم» بالاستغناء دفعة واحدة عن كل إدارة، عم كل خضوع. فهذه الأحلام الفوضوية الناشئة عن عدم فهم مهام ديكتاتورية البروليتاريا هي غريبة تماما عن الماركسية ولا تفعل في الواقع غير تأجيل الثورة الاشتراكية إلى أن يصبح الناس غير ما هم عليه. لا. نحن نريد الثورة الاشتراكية مع الناس على ما هم عليه اليوم، مع هؤلاء الناس الذين لا يستطيعون الاستغناء عن الخضوع، عن المراقبة، عن «المراقبين والمحاسبين».
ولكن ينبغي الخضوع للطليعة المسلحة، لطليعة جميع المستثثمَرين وجميع الشغيلة، للبروليتاريا. يمكن وينبغي أن يشرع على الفور، بين عشية وضحاها، بالاستعاضة عن «ترؤس» موظفي الدولة المتميز بوظائف «المراقبين والمحاسبين» البسيطة، بوظائف هي منذ اليوم كليا في مستوى تطور سكان المدن بوجه عام ويمكن القيام بها تماما مقابل «أجرة عامل».
سننظم الإنتاج الكبير انطلاقا مما أنشأته الرأسمالية وسنقوم نحن العمال بأنفسنا، مستندين إلى خبرتنا العمالية وواضعين انضباطا صارما جدا، انضباطا حديديا تدعمه سلطة الدولة للعمال المسلحين، بحصر دور موظفي الدولة في دور مجرد منفذين لما تكلفهم به، في دور «مراقبين ومحاسبين» (طبعا، مع التكنيكيين من جميع الأصناف والأنواع والدرجات) يتحملون المسؤولية ويمكن سحبهم ويتقاضون رواتب متواضعة. هذه هي مهمتنا البروليتارية، هذا ما يمكن وما يجب أن نبدأ به عند القيام بالثورة البروليتارية. وهذه البداية القائمة على الإنتاج الضخم تؤدي بطبيعة الحال إلى «اضمحلال» الدواوينية كلها بصورة تدريجية، تؤدي بصورة تدريجية إلى نشوء نظام –نظام بدون معترضتين، نظام لا يشبه عبودية العمل المأجور- يجري فيه تحقيق وظائف المراقبة والمحاسبة التي تغدو أبسط فأبسط من قبل الجميع بالتناوب ثم تغدو هذه الوظائف عادة لتزول في النهاية باعتبارها وظائف خاصة تقوم بها فئة خاصة من الناس.
إن أحد الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان الأذكياء من تسعينات القرن الماضي قد نعث دائرة البريد بنموذج للمشروع الاشتراكي. وهذا صحيح كل الصحة. فالبريد هو الآن منظم على طراز احتكار رأسمالية الدولة. والإمبريالية تحول بالتدريج جميع التروستات إلى مشاريع من هذا الطراز. فالشغيلة «البسطاء» الغارقون في العمل حتى الآذان والجياع تتربع فوقهم فيها البيروقراطية البرجوازية عينها. ولكن آلية الإدارة الاجتماعية هي في هذه المشاريع جاهزة. فما أن يسقط الرأسماليون وتحطم يد العمال المسلحين الحديدية مقاومة هؤلاء المستثمِرين وتكسر الآلة البيروقراطية للدولة الراهنة حتى نرى أمامنا آلة محررة من «الطفيلي» ومجهزة أحسن تجهيز من الناحية التكنيكية يستطيع العمال المتحدون أنفسهم تشغيلها على خير وجه باستئجار الخبراء الفنيين والمراقبين والمحاسبين مكافئينهم على عملهم جميعهم شأنهم شأن جميع موظفي «الدولة» على العموم بأجرة عامل. هذه هي المهمة العملية الملموسة الممكنة التحقيق على الفور حيال جميع التروستات، المهمة التي تخلص الشغيلة من الاستثمار وتأخذ بعين الاعتبار التجربة التي قد بدأتها الكومونة عمليا (ولا سيما في حقل بناء الدولة).
تنظيم الاقتصاد الوطني برمته على نمط البريد على أن لا تزيد رواتب الخبراء الفنيين والمراقبين المحاسبين، شأنهم شأن جميع الموظفين، على «أجرة العامل»، وذلك تحت رقابة وقيادة البروليتاريا المسلحة، -هذا هو هدفنا المباشر. هذه هي الدولة التي نحتاج إليها. وهذا هو الأساس الاقتصادي الذي ينبغي أن تقوم عليه. وهذا ما سيسفر عنه القضاء على البرلمانية والحفاظ على المؤسسات التمثيلية. وهذا ما سيخلص الطبقات الكادحة من تعهير هذه المؤسسات من قبل البرجوازية.
4-تنظيم وحدة الأمة
«وقد ورد بوضوح تام في موجز التنظيم القومي الذي لم يتوفر للكومونة الوقت لوضعه بتفصيل أكبر، إن الكومونة يجب أن … تصير الشكل السياسي حتى لأصغر قرية» …والكومونة هي التي كان عليها أن تنتخب «منتدبي الأمة» في باريس.
«والوظائف القليلة، ولكنها الهامة جدا، التي كانت ستظل في يد الحكومة المركزية لم تكن لتلغى، -ومثل هذا الزعم كان تزويرا عن عمد- بل كان يجب نقلها إلى موظفي الكومونة، أي إلى موظفين ذوي مسؤولية محددة تحديدا دقيقا
ووحدة الأمة لم تكن لتفصم، بل بالعكس كانت ستنظم عن طرق البناء الكوموني. وكان لوحدة الأمة أن تصبح حقيقة واقعة بالقضاء على سلطة الدولة التي كانت تدعي بأنها تجسيد لتلك الوحدة، ولكنها كانت ترغب في أن تكون مستقلة عن الأمة، مستعلية عليها. أمّا في الواقع، فلم تكن سلطة الدولة هذه إلاّ بمثابة الزائدة الطفيلية على جسم الأمة … وكانت المهمة هي بتر أجهزة الاضطهاد البحتة التابعة للسلطة الحكومية القديمة، وانتزاع الوظائف المعتادة من سلطة تطمع بأن تكون فوق المجتمع وتسليمها إلى خدم المجتمع المسؤولين».
إن كتاب المرتد برنشتين «ممهدات الاشتراكية ومهام الاشتراكية-الديموقراطية» الذي ذاع صيته على نمط هيراسترات يظهر لنا على الوجه الأوضح لأي مدى لم يفهم الانتهازيون في الاشتراكية-الديموقراطية المعاصرة –وقد يصح القول: لم يرغبوا في أن يفهموا- محاكمات ماركس هذه بالذات إن هذا البرنامج «من حيث مضمونه السياسي يشبه في جميع سماته الجوهرية شبها كبيرا جدا اتحادية برودون … ورغم كل الاختلافات بين ماركس و«البرجوازي الصغير» برودون (يضع برنشتين كلمتي «برجوازي صغير» بين قوسين مزدوجين ينبغي لهما حسب رأيه أن يضفيا على التعبير شيئا من النكهة) فإن مجرى التفكير عندهما في هذه النقاط متقارب لأقصى حد». وما من شك –يتابع برنشتين- في أن أهمية المجالس البلدية في ازدياد، ولكن «يبدو لي من المشكوك فيه أن يكون واجب الديموقراطية الأول إلغاء (Auflosung حرفيا: حل) الدول الحديثة وتغيير (Umwandlung: قلب) تنظيمها تغييرا تاما كما يتصور ماركس وبرودون، أي تشكيل مجلس الأمة من مندوبين عن مجالس الأقاليم أو المحافظات التي تتألف بدورها من مندوبين عن الكومونات، بحيث يزول بصورة تامة شكل التمثيل الوطني السابق بأكمله» (برنشتين، «ممهدات»، ص 134 و136، الطبعة الألمانية، سنة 1899).
إنه لمن منتهى الفظاعة أن يخلط المرء نظرات ماركس بصدد «القضاء على سلطة الدولة، على الطفيلي» مع اتحاد برودون! ولكن ليس من باب الصدفة، لأنه لا يمكن حتى أن يخطر ببال الانتهازي أن ماركس لا يتكلم هنا البتة عن الاتحادية باعتبارها نقيض المركزية، بل عن تحطيم آلة الدولة القديمة، البرجوازية، الموجودة في جميع البلدان البرجوازية.
لا يخطر ببال الانتهازي إلاّ ما يراه من حوله من بيئة التافهين صغار البرجوازيين والركود «الإصلاحي»، أي يضطر بباله مجرد «المجالس البلدية»! أما ثورة البروليتاريا فقد أضاع الانتهازي حتى المقدرة على التفكير بها.
إن هذا مضحك. ولكن البليغ الدلالة أن أحدا لم يجادل برنشتين حول هذه النقطة. فقد دحضه كثيرون ولاسيما بليخانوف في الأدب الروسي وكاوتسكي في الأدب الأوروبي، ولكن لم يتحدث لا هذا ولا ذاك عن هذا التشويه لماركس من جانب برنشتين.
لقد أضاع الانتهازي مقدرته على التفكير الثوري والتفكير بالثورة إلى حد أنه ينسب إلى ماركس «الاتحادية» ويخلط بينه وبين مؤسس الفوضوية برودون. أمّا كاوتسكي وبليخانوف الراغبان في أن يكونا من الماركسيين الأرثوذكس وفي الذود عن تعاليم الماركسية الثورية فيصمتان عن ذلك! وهنا يكمن جذر من جذور الإبتذال المفرط للآراء بصدد الفرق بين الماركسية والفوضوية، ذلك الابتذال الذي يلازم الكاوتسكيين والانتهازيين على حد سواء والذي سنتحدث عنه فيما بعد.
لا يوجد للاتحادية أثر فيما أوردناه من محاكمات ماركس عن خبرة الكومونة. يلتقي ماركس وبرودون بالضبط فيما لا يراه الانتهازي برنشتين. ويفترق ماركس وبرودون بالضبط فيما يراه برنشتين وجه الشبه.
يلتقي ماركس وبرودون في كون الاثنين يناديان بـ«تحطيم» آلة الدولة الحديثة. وهذا الشبه بين الماركسية والفوضوية (برودون وباكونين على حد سواء) لا يريد أن يراه الانتهازيون ولا الكاوتسكيون لأنهم حادوا عن الماركسية في هذه النقطة.
ويفترق ماركس عن برودون وكذلك عن باكونين في مسألة الاتحادية على وجه التحقيق (فضلا عن ديكتاتورية البروليتاريا). الاتحادية تنبثق مبدئيا عن النظرات البرجوازية الصغيرة للفوضوية. إن ماركس من القائلين بالمركزية. وفيما أوردناه من محاكماته لا يوجد أي تراجع عن المركزية. فقط الناس الذين حشيت رؤوسهم حشوا «بالإيمان الخرافي الأعمى» البرجوازي الصغير بالدولة يستطيعون أن يروا في القضاء على آلة الدولة البرجوازية قضاء على المركزية!
ولكن إذا ما أخذ البروليتاريون وفقراء الفلاحين بأيديهم سلطة الدولة وإذا تنظموا بملء الحرية في كومونة ووحدوا عمل جميع الكومونات في ضربات يوجهونها ضد الرأسمال، في تحطيم مقاومة الرأسماليين، في نقل الملكية الخاصة للسكك الحديدية والمصانع والأرض وغيرها إلى الأمة بأسرها، إلى المجتمع بأسره، أفلا يكون ذلك من المركزية؟ أليس ذلك بالمركزية الديموقراطية المستقيمة أشد الاستقامة؟ بله المركزية البروليتارية؟
لا يمكن البتة أن يخطر لبرنشتين ببال احتمال مركزية طوعية، توحيد طوعي للكومونات في أمة، تلاحم طوعي للكومونات البروليتارية في أمر تحطيم السيادة البرجوازية وآلة الدولة البرجوازية. فبرنشتين، شأنه شأن جميع ذوي الذهنية البرجوازية الصغيرة، يتصور المركزية بمثابة شيء لا يمكن فرضه والإبقاء عليه إلاّ من أعلى، وعن طريق دواوين الموظفين والطغمة العسكرية.
لقد أشار ماركس عمدا، وكأنه توقع إمكانية تشويه نظراته، إلى أن اتهام الكومونة بالرغبة في القضاء على وحدة الأمة وفي إلغاء السلطة المركزية هو من التزوير المتعمد. وقد تقصد ماركس استعمال تعبير «تنظيم وحدة الأمة» لكيما يعارض المركزية البرجوازية والعسكرية البيروقراطية بالمركزية البروليتارية الواعية والديموقراطية.
ولكن… قد استمعت لو ناديت حيا. والحال، أن الانتهازيين في الاشتراكية-الديموقراطية الحديثة لا يريدون بتاتا أن يسمعوا بالقضاء على سلطة الدولة، ببتر الطفيلي.
5- القضاء على الطفيلي، على الدولة
لقد أوردنا أقوال ماركس المناسبة وعلينا أن نردفها بأقوال أخرى له.
لقد كتب ماركس:
« إن النصيب المعتاد للابداع التاريخي الجديد أنه يعتبر صنوا لأشكال قديمة أو حتى لأشكال بائدة للحياة الاجتماعية تشبهها مؤسسات جديدة بعض الشبه. وهكذا، أن هذه الكومونة الجديدة التي تحطم (bricht-تكسر) سلطة الدولة الحديثة اعتبرت بمثابة بعث لكومونات العصور الوسطى… بمثابة اتحاد للدول الصغيرة (مونتيسكيو، الجيرونديون)،… بمثابة شكل مضخم للكفاح القديم ضد التمركز المفرط
إن التنظيم الكوموني كان سيعيد إلى الجسم الإجتماعي جميع القوى التي ابتلعتها حتى ذلك الحين «الدولة»، تلك الزائدة الطفيلية التي تقتات على حساب المجتمع وتعيق تقدمه الحر. وهذا وحده كان يكفي لأن يتقدم بعث فرنسا
أن التنظيم الكوموني كان سيضع المنتجين الريفيين تحت القيادة الروحية للمدن الرئيسية في كل منطقة ويؤمن لهم هناك، في شخص عمال المدن، الممثلين الطبيعيين لمصالحهم. إن وجود الكومونة انطوى في حد ذاته، وكشيء بديهي، على الإدارة الذاتية المحلية، ولكن ليس كنقيض لسلطة الدولة التي تغدو منذ الآن زائدة».
«القضاء على سلطة الدولة» التي كانت «زائدة طفيلية»، «بتر»ها، «تحطيم»ها؛ «سلطة الدولة تغدو منذ الآن زائدة» -بهذه التعابير تكلم ماركس عن الدولة في تقديره وتحليله لخبرة الكومونة.
كتب كل ذلك منذ نصف قرن تقريبا ويتأتي الآن أن نقوم بما يشبه الحفريات لنوصل إلى إدراك الجماهير الغفيرة تعاليم الماركسية غير مشوهة. فعندما حل عهد الثورات البروليتارية الكبرى الجديدة، في هذا العهد بالضبط نسوا الاستنتاجات التي خلص إليها ماركس من تتبع آخر ثورة كبرى حدثت في حياته.
«إن تعدد الشروح التي استتبعتها الكومونة وتعدد المصالح التي وجدت فيها تعبيرا عنها يثبتان أنها كانت شكلا سياسيا مرنا للغاية، بينما كانت جميع الأشكال السابقة للحكومة أشكالا للإضطهاد من حيث جوهرها. وكان سر الكومونة الحقيقي هو هذا: كانت، من حيث الجوهر، حكومة الطبقة العاملة، كانت نتاج كفاح طبقة منتجين ضد طبقة المستأثرين، كانت الشكل السياسي الذي اكتشف أخيرا والذي كان يمكن في ظله أن يتحقق التحرر الاقتصادي للعمل
ولولا هذا الشرط الأخير لكان التنظيم الكوموني أمرا مستحيلا ولكان غشا»
لقدانصرف الطوباويون إلى «اكتشاف» الأشكال السياسية التي ينبغي أن تحدث في ظلها إعادة تنظيم المجتمع على أساس الاشتراكية. وقد أشاح الفوضويون بوجوههم عن مسألة الأشكال السياسية بوجه عام. وقبل الانتهازيون في الاشتراكية-الديموقراطية البرلمانية كحد لا يمكن تخطيه وعفروا جباههم في الركوع والسجود أمام هذا «المعبود» وأعلنوا من الفوضوية كل نزعة إلى تحطيم هذه الأشكال.
لقد استخلص ماركس من كامل تاريخ الاشتراكية والنضال السياسي أنه لا بد للدولة أن تزول وأن الشكل الإنتقالي لزوالها (الانتقال من الدولة إلى اللادولة) سيكون «البروليتاريا المنظمة في طبقة سائدة». ولكن ماركس لم يأخذ على عاتقه اكتشاف الأشكال لهذا المستقبل. لقد اقتصر على تتبع التاريخ الفرنسي بصورة دقيقة، على تحليله وعلى استخلاص الاستنتاج الذي قادت إليه سنة 1851: تقترب الأمور من تحطيم آلة الدولة البرجوازية.
وعندما اندلعت حركة البروليتاريا الثورية الجماهيرية أخذ ماركس، رغم إخفاق هذه الحركة، رغم قصرها، رغم ضعفها البين، في دراسة ما اكتشفته من أشكال.
الكومونة هي الشكل الذي «اكتشفته أخيرا» الثورة البروليتارية والذي يمكن في ظله أن يتحقق التحرر الاقتصادي للعمل.
الكومونة هي أول محاولة تقوم بها الثورة البروليتارية لتحطيم آلة الدولة البرجوازية والشكل السياسي الذي «أُكتشف أخيرا» والذي يمكن ويجب أن يستعاض به عن المحطَّم.
وسنرى فيما يأتي من البحث أن الثوريين الروسيين في سنتي 1905 و1917 تابعتا قضية الكومونة في حالة أخرى وفي ظروف أخرى وأنها تثبتان تحليل ماركس التاريخي العبقري
الفصل الرابع
تتمة. شروح اضافية لإنجلس
لقد تقدم ماركس بما هو أساسي في مسألة أهمية خبرة الكومونة. وقد رجع إنجلس مرارا إلى الموضوع نفسه شارحا تحليل ماركس واستنتاجاته وموضحا الوجوه الأخرى في المسألة بقوة وجلاء مما يجعل من الضروري تناول هذه الشروح بوجه خاص.
1-«مسألة المساكن»
كان انجلس قد راعى خبرة الكومونة في مؤلفه عن مسائل المساكن (سنة 1872) حين تناول فيه عدة مرات مهام الثورة حيال الدولة. وما يستوقف النظر أنه قد بين بوضوح، استنادا إلى هذا الموضوع الملموس، من جهة، وجوه الشبه بين الدولة البروليتارية والدولة الراهنة، ومن الجهة الأخرى، وجوه التباين أو الإنتقال إلى القضاء على الدولة.

No comments:

Post a Comment