Saturday, August 11, 2012

مستقبل الرأسمالية العالمية - د/ أشرف منصور

مستقبل الرأسمالية العالمية - د/ أشرف منصور
مستقبل الرأسمالية العالمية
الرأسمالية هي النظام الاقتصادي السائد عالميا. ما هو مستقبلها؟ هل ستظل معنا إلى الأبد؟ هل هي نهاية التاريخ؟ هل يمكن تصور نظام آخر أفضل منها؟ هل يمكننا تحقيق مثل هذا النظام الأفضل؟ ماركس هو أول من اكتشف الطابع العالمي للرأسمالية، باعتبار أن الإنتاج للسوق العالمي هو الشرط الأساسي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، وهو أيضا أول من وضع تشخيصا تاريخيا للرأسمالية في "البيان الشيوعي" مع إنجلز. وهو أيضا أول من وضع هذه الأسئلة التي ذكرناها وحاول الإجابة عنها. لم يكن ماركس بالطبع هو الوحيد الذي تناول هذه الأسئلة، ذلك لأنها أصبحت الهم الشاغل للعلوم الاجتماعية من بعده. لن نشغل أنفسنا في هذه الدراسة إلا بالكيفية التي تعامل بها ماركس مع قضية مستقبل الرأسمالية، ذلك لأن التشخيص الذي قدمه لها هو الأكثر ثورية والأكثر درامية.
هناك معياران للحكم على النظرية؛ فهي إما أن تكون ناجحة في التنبؤ، أو ناجحة في التفسير. ذهب نقاد الماركسية إلى أنها فشلت في امتحان التنبؤ، لأن الثورة الاشتراكية التي تنبأت بها فشلت، وهذه مغالطة كبيرة، ذلك لأن الثورة الاشتراكية قد حدثت بالفعل وبذلك كانت الماركسية ناجحة في التنبؤ. وإما أن تكون ناجحة في التفسير، وهذا النجاح هو ما حققته الماركسية، إذ رأينا منها قوة تفسيرية عالية فاقت النظريات الاقتصادية النيوكلاسيكية والحدية. التنبؤ في نظرية ماركس هو بالنظام المستقبلي الذي يمكنه أن يحل محل الرأسمالية والذي أطلق عليه "الاشتراكية"، والتفسير هو فهم "القوانين الاقتصادية الحاكمة لحركة المجتمع المعاصر". لم يكن الهدف الأساسي لماركس وضع نبوءة حول الاشتراكية أو التبشير بها أو إقناع أحد بها، بل كان هدفه الأساسي فهم النظام الرأسمالي، ولذلك فإن العمل الأساسي لماركس يسمى "رأس المال"، ولم يؤلف ماركس أبدا كتابا يسمى "الاشتراكية". سوف نحاول في الصفحات التالية توضيح أن عنصر القوة في نظرية ماركس هو قدرتها التفسيرية العالية التي تستطيع إفهامنا الكثير مما يحدث في النظام الرأسمالي العالمي، لا قدرتها التنبؤية بالنظام الاشتراكي. لكن لا يخلو وصف ماركس للرأسمالية من عنصر تنبؤي، ذلك لأن نظريته تحتوي على توقعات بمستقبل الرأسمالية. للتنبؤ في نظرية ماركس إذن مستويان: الأول قريب ويخص التنبؤ بمستقبل الرأسمالية، والثاني بعيد ويخص التنبؤ بالنظام الذي سيحل محلها، أي الاشتراكية. تكشف نظرية ماركس عن قدرة عالية على التنبؤ بمستقبل الرأسمالية، وهذا ما سوف نركز عليه، لكنها لم تكشف عن نفس القدرة فيما يخص الاشتراكية في المستقبل البعيد.
(1)
فهم ماركس (1818-1883) الاشتراكية على أنها التعاون الحر والطوعي بين المنتجين في المجتمع. وكان يقصد بالمنتجين لا الفهم الشائع لهم باعتبارهم مالكي عناصر الإنتاج أو رؤوس الأموال، بل المنشغلين مباشرة في العملية الإنتاجية، سواء كانوا عمالا أو مهندسين وتقنيين أو موظفي خدمات. المنتج الحقيقي عند ماركس هو الذي يقوم بالعملية الإنتاجية أو الخدمية بنفسه، أما الذي يوظف رأس مال نقدي فليس منتجا حقيقيا. والاشتراكية كما فهمها ماركس هي أن يدار المجتمع كله من قبل الذين يقومون بكل عمل منتج، لا من قبل أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج ملكية خاصة.
إن المجتمعات الحالية في كل أنحاء العالم تدار فوقيا من قبل هؤلاء أو ممثليهم السياسيين، وهذا هو النظام المسمى بالرأسمالية. الرأسمالية هي أن تدار عجلة الإنتاج وينظم المجتمع كله بحيث يضمن ربحا لأصحاب رؤوس الأموال، أما الاشتراكية فلا تهدف تنظيم المجتمع لضمان الربح الشخصي بل لضمان الأمن الاجتماعي والوظيفي للمجتمع كله. ولأن وسائل إنتاج المجتمع تقع في أيدي أفراد بحكم حق الملكية الخاصة، فإن هؤلاء الملاك لهم كل المصلحة في الحفاظ على الوضع القائم ولن يسمحوا أبدا بحدوث مثل هذا التغير الجذري في علاقات الملكية، وسوف يحاربون بكل الأسلحة التي يملكونها أو التي يمكن أن تقع تحت أيديهم للحفاظ على وضعهم المسيطر على الاقتصاد والمجتمع. وهنا تكمن أكبر مشكلة؛ ذلك لأن نظاما اشتراكيا لا يستطيع أن يظهر إلى الوجود دون صراع بين هؤلاء الذين يهدفون إيجاد النظام التعاوني الحر بين المنتجين وأولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج ملكية خاصة ويسيطرون معها على القوة السياسية التي تدعم وضعهم المسيطر في العملية الإنتاجية.
(2)
كان ماركس من بين المفكرين الذين دعوا إلى ذلك النظام التعاوني الحر بين المنتجين. لكن بدلا من انشغاله في بيان كيفية تنظيم المجتمع تنظيما اشتراكيا، انشغل بمهمة أكثر أولية ومبدأية، أي بفهم كيفية عمل النظام الرأسمالي، ذلك النظام الذي يشكل واقعا مسيطرا، وذلك بهدف فهم كيفية التعامل معه للتمكن من تجاوزه. لقد انشغل ماركس طوال حياته بدراسة الرأسمالية لا بالتخطيط للاشتراكية، ولهذا السبب فإن أهم عمل له كان يحمل عنوان "رأس المال"، ولم يكتب أبدا عملا عنوانه "الاشتراكية" أو "الاقتصاد الاشتراكي". وكانت هذه مفارقة عجيبة، ذلك لأن ماركس هو الذي وضع الحكمة الشهيرة القائلة أن الفلسفة اكتفت حتى الآن بتفسير العالم والمهم الآن هو تغييره؛ وعلى العكس من هذه الحكمة فإن ماركس لم ينشغل بكيفية التغيير بل انشغل في المزيد من التفسير والفهم لعالم رأس المال القائم الذي يريد تغييره. ومعنى ذلك أن تغيير العالم عند ماركس كان لا يزال مسبوقا بمحاولة تفسيره وفهمه.
وما دفع ماركس نحو توجيه كل طاقاته الفكرية لدراسة الرأسمالية قناعة توصل إليها من تتلمذه على فلسفة هيجل، وتذهب إلى أن كل جديد ينبثق من داخل القديم باعتباره التطور الطبيعي له بفعل الحتمية، تلك التي فهمها هيجل على أنها الحتمية التاريخية للروح المطلق، والتي فهمها ماركس على أنها الحتمية الاقتصادية التي تظهر في صورة قوانين تاريخية. وبذلك لم تكن دراسة ماركس للرأسمالية سوى بهدف توضيح كيفية ظهور نظام آخر أكثر تقدما وعدلا منها ومحققا لحرية أكثر، وحاول وضع يده على تناقضات النظام وأزماته الدورية التي تعجل بانهياره، مقتنعا بأن بذور المجتمع التعاوني الحر تكمن في قلب النظام الرأسمالي، وبأن تطور الرأسمالية يسير نحو أشكال أكثر تعاونية في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وبذلك تمهد الرأسمالية الطريق نحو تجاوزها.
(3)
يتكون العمل الأساسي لماركس، وهو كتاب "رأس المال" من ثلاثة مجلدات، لم ينشر منها ماركس إلا المجلد الأول سنة 1867، أما المجلدين الثاني والثالث فقد نشرهما إنجلز بعد وفاة ماركس في 1884 و1894 على التوالي (توفى ماركس سنة 1883). ما السبب الذي منع ماركس من عدم نشر المجلدين الثاني والثالث؟ إن الفترة الواقعة بين تاريخ صدور المجلد الأول ووفاة ماركس طويلة، فهي تمتد من 1867 إلى 1883، فما الذي منعه عن نشرهما طوال هذه الفترة، على الرغم من أن مخطوطيهما كانا جاهزين ولم يكونا في حاجة إلا إلى صياغة بسيطة، وهذا ما يدل عليه العمل التحريري لإنجلز الذي لم يتكبد عناء كبيرا في إعدادهما للنشر؟ والأغرب من ذلك أن ماركس قد كتب مخطوطات المجلدين الثاني والثالث قبل مخطوطات الأول وقبل أن يضع الصياغة النهائية له. في إجابتنا على هذا السؤال الذي يصل إلى حد اللغز لا يجب أن نشتت تفكيرنا نحو البحث عن ظروف حياة ماركس الشخصية، لأن مثل هذا السؤال لا يمكن الإجابة عليه إلا من داخل سياق النظرية الماركسية ذاتها. فهل في دراسة ماركس ما جعله يحجم عن إكمال نشر مجلدات كتابه؟ ما الذي اكتشفه في دراسته؟ هل قابلته صعوبة لم يستطع التعامل معها حتى وفاته؟
الحقيقة أن ماركس كان مترددا في نشر المجلدين الثاني والثالث، ويرجع ذلك إلى العلاقة بين الأمل الثوري لماركس الذي كان يتبناه منذ 1843 ودراساته الاقتصادية. كان ماركس مقتنعا منذ وقت مبكر، أي منذ 1848 مع البيان الشيوعي، أن النظام الرأسمالي في سبيله إلى الانهيار على مستوى واسع يشمل أوروبا كلها، لكن مع النتائج التي أسفرت عنها ثورات 1848 والتي انتهت إلى سحق الحركات الثورية التي اجتاحت أوروبا وإلى تثبيت أقدام الحكومات البورجوازية والأرستقراطية في غرب وشرق أوروبا على السواء، اتضح لماركس أن انهيار الرأسمالية ليس في المستقبل القريب. عندئذ عكف على دراسة الاقتصاد الرأسمالي ليفهم طبيعته وكيفية عمله وإلى أين ستؤدي تطوراته. وبذلك حول اهتمامه من مجرد الكشف عن عوامل اضمحلال وانهيار الرأسمالية التي كان مهتما بها في مؤلفات ما قبل 1848 (بؤس الفلسفة، الأيديولوجيا الألمانية، البيان الشيوعي)، إلى الكشف عن العوامل التي تمكن الرأسمالية من البقاء والتغلب على أزماتها (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي 1859، الأجور والسعر والربح 1865، رأس المال 1867)، مما يمكنها من المزيد من التوسع والانتشار أفقيا ورأسيا. وبدلا من انشغال ماركس في التخطيط النظري للثورة انشغل في موضوع أكثر علمية وهو دراسة آليات عمل الرأسمالية، وهذا الجهد هو الذي أسفر عن مؤلفات ماركس الاقتصادية الهامة.
ونتيجة لدراسة ماركس في الاقتصاد الرأسمالي، اكتشف أن هذا النظام يستطيع بالفعل أن يدفع بتناقضاته بعيدا عنه مكانيا، أي بتصدير أزماته للمستعمرات والمناطق التابعة له في كل أنحاء العالم، وزمانياً بالعمل على التأجيل المستمر للصدامات الاجتماعية التي يمكن أن تعصف به. ووجد ماركس نفسه أنه خير من درس الرأسمالية في كل جوانبها دراسة علمية دقيقة ومفصلة، ووجد نفسه وقد أصبح خبيرا في الاقتصاد الرأسمالي، حتى أنه تفوق على كل سابقيه. وهذا ما يكشف عنه "رأس المال" بمجلداته الثلاثة. ومن مفارقات الزمان أن أصبح كتاب ماركس هذا هو الدراسة الاقتصادية العلمية الوحيدة التي حافظت على وجاهتها وصحة تحليلاتها حتى الآن، إلى الحد الذي جعلها المرجع الأساسي للاقتصاد الرأسمالي ذاته. لقد وجد ماركس نفسه وقد وضع دليلا للرأسمالية لا دليلا للاشتراكية، دليلا للرأسماليين يوضح لهم كيفية عمل النظام الرأسمالي ونقاط ضعفه مما يمكنهم من تفاديها، أكثر من وضعه دليلا للعمال يستطيعون به العثور على نقاط ضعف النظام واستخدامها كمعاول للهدم. وبذلك صار "رأس المال" سلاحا ذو حدين، يمكن استخدامه من قبل الرأسماليين أو العمال، وسوف يستفيد منه الجانب الأكثر قوة، وكان هذا هو ما حدث بالفعل.
وفي سياق دراسته اكتشف ماركس قدرة الرأسمالية على التعايش والتغلب على ازماتها، وبذلك ابتعد الأمل الثوري القديم واكتشف أن نهاية النظام الرأسمالي ليست في المستقبل القريب وأنه لن يشهد هذه النهاية في حياته أبدا، ولا في حياة أجيال عديدة بعده. ولم يعلن ماركس صراحة عن هذه النتيجة الخطيرة التي توصل إليها والتي تصل إلى حد النبوءة - والحقيقة أن العلم عندما يصل إلى قمة نضجه وتطوره يصبح هو النبوة الحديثة – بل ظل صامتا عنها؛ لكنها سببت له في نفس الوقت إحباطا شديدا كان هو السبب في عدم نشره للمجلدين الثاني والثالث من رأس المال. ذلك لأنهما، بعكس المجلد الأول الذي كشف فيه ماركس عن تناقضات النظام الرأسمالي، يقدمان لنا كيفية تعامل النظام مع تناقضاته وكيفية نجاحه في التغلب عليها؛ وفي حين أن المجلد الأول يتناول العمال والمصنع ويوم العمل وعمالة النساء والأطفال والتراكم الأولي والجيش الصناعي الاحتياطي والاستعمار والصراع الطبقي في العصر الحديث وبذلك كان محفزا ومحرضا ومبشرا بالأمل الثوري، فإن المجلدين الثاني والثالث يتناولان الأسعار والربح والإيجار العقاري ودوران رأس المال التجاري والمالي والبنك والشركة المساهمة وقطاعي الإنتاج والاستهلاك وتجديد إنتاج رأس المال على مستوى المشروع وعلى مستوى المجتمع، إنه الجانب الممل والمحبط بالنسبة للثوري القديم. وهنا تناقض العمل الذي أخرجه ماركس مع أمله الثوري القديم، وهذا ما دفعه نحو الاحتفاظ بمخطوطات المجلدين الثاني والثالث في أدراجه من 1867 إلى وفاته في 1883.
(4)
ومن مفارقات الزمان أن ماركس الثوري الشيوعي هو أفضل من قدم تحليلا للإنجازات التاريخية للرأسمالية وذلك منذ وقت مبكر عندما بدأ النظام الرأسمالي ينتشر عالميا، أي سنة 1848 مع البيان الشيوعي. فنحن نجد في البيان الشيوعي أفضل مدح وثناء على البورجوازية لم تناله حتى من ممثليها الرسميين. فقبل أن يكتشف ماركس قدرة النظام الرأسمالي على البقاء في المجلدين الثاني والثالث من رأس المال في النصف الأول من ستينات القرن التاسع عشر، كان قد وضع يده على الإنجاز التاريخي الهام للبورجوازية ونظامها الرأسمالي منذ البيان الشيوعي. يقول ماركس في البيان الشيوعي: "لقد لعبت البورجوازية دورا في غاية الثورية. فحيثما كانت لها اليد العليا، وضعت نهاية لكل العلاقات الإقطاعية والأبوية. وقطعت بحزم كل الروابط التي تقيد الإنسان بأسياده الطبيعيين، ولم تترك أي صلة بين الإنسان وأخيه الإنسان سوى المصلحة الشخصية.. لقد أوضحت ما الذي يمكن أن يفعله النشاط الإنساني. فقد حققت عجائب تفوق بمراحل الأهرامات المصرية والجسور الرومانية والكنائس القوطية.. البورجوازية لا تستطيع أن تعيش دون تثوير مستمر لوسائل الإنتاج، ومعها علاقات الإنتاج وكل العلاقات الاجتماعية.. إن حاجتها إلى أسواق دائمة التوسع لمنتجاتها جعلتها تمتد إلى كل أنحاء الكوكب. إنها يجب أن تعشش في كل مكان، وتسكن في كل مكان، وتقيم علاقات في كل مكان.. والبورجوازية من خلال استغلالها للسوق العالمي قد أعطت طابعا كوزموبوليتانيا للإنتاج والاستهلاك في كل بلد.. وعن طريق التحسين المستمر لكل وسائل الإنتاج ووسائل الاتصال السهلة، أخرجت البورجوازية كل الأمم بما فيها الأكثر بدائية من الهمجية إلى الحضارة. والأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تقذف بها كل سور صين عظيم.. إنها تدفع كل الأمم (لأن تكون مثلها) وإلا تعرضوا للفناء.. إنها تخلق عالما على صورتها. لقد خلقت البورجوازية في القرن الذي تسيدت فيه قوى إنتاجية تفوق كل ما أنتجته البشرية حتى الآن.." ( ) .
إن هذا التقييم العالي للبورجوازية ونظامها الرأسمالي صادر عن عقلية علمية رفيعة المستوى. ألا تشعر عزيزي القارئ أن هذا التص لا يزال معاصرا لنا؟ ألا تشعر أنه يتكلم عما نحن فيه الآن؟ ألا يتكلم ماركس فيه عن الطابع الكوزموبوليتاني للإنتاج والاستهلاك؟ أليست هذه هي العولمة بعينها؟ إن مواجهة ماركس للنظام الرأسمالي لم تجعله يعمى عن إنجازاته التاريخية. فنظام اقتصادي واجتماعي مثل هذا ليس من السهل تجاوزه؛ إنه نظام قوي وسوف ُيقدَّر له البقاء لفترة طويلة، وهذا ما اكتشفه ماركس، لا في البيان الشيوعي بل في دراساته الاقتصادية اللاحقة خاصة في أواخر خمسينات القرن التاسع عشر. والحقيقة أن دراسات ماركس التالية على البيان الشيوعي سوف توضح له بمزيد من الدقة قدرة النظام الرأسمالي على البقاء، وما كان مجرد ملاحظات عامة في ثورية وتقدمية البورجوازية ورأسماليتها وإنجازاتها التاريخية في البيان الشيوعي، سوف يصبح دراسة اقتصادية دقيقة في "رأس المال" للكيفية التي يحافظ بها النظام الرأسمالي على نفسه ويتجاوز أزماته وتناقضاته ويعيد إنتاج ذاته باستمرار.
(5)
عندما كتب ماركس البيان الشيوعي مع إنجلز في 1848 كان يتوقع حدوث ثورة شيوعية في غضون سنوات، وبعد فشل ثورات 1848 ألقى احتمال الثورة إلى مستقبل أبعد، وظل يلقي توقعه بالثورة إلى مستقبل ظل في ابتعاد أكثر حتى أنه غير من توقعاته القديمة في سبعينات القرن التاسع عشر. فبعد أن كان معتقدا أن الثورة متوقعة في انجلترا التي تشهد أكبر تطور للنظام الرأسمالي وبالتالي تناقضات أكثر حدة، غير توقعاته ونظر إلى الولايات المتحدة على أنها الأكثر مناسبة لحدوث ثورة اشتراكية في مستقبلها البعيد، ثم عدل عن هذه الفكرة عندما أدرك أن تناقضات الرأسمالية لن تظهر في أمريكا ذات المساحة القارية الشاسعة والأراضي البكر والفرص العديدة المتاحة للتوسع الرأسمالي بها، وأخيرا أدرك أن الثورة لن تحدث إلا عندما يتوحد العالم كله تحت ظل الرأسمالية وبذلك تبلغ تناقضاتها ذروتها حين تصبح تناقضات عالمية لا يستطيع النظام تصديرها إلى أي مكان آخر. لقد أدرك ماركس أن العالم يجب أن ينغلق أمام الرأسمالية بأن يتشبع تماما من علاقاتها بحيث لا تصبح أمامه أي فرصة جديدة للتوسع. وفي عصر ماركس لم يكن العالم قد توحد بعد تحت رأس المال، إذ كانت هناك قارات بأكملها لم تكن قد عرفت بعد علاقات الإنتاج الرأسمالية على الرغم من خضوعها كمستعمرات للقوى الرأسمالية.
أدرك ماركس أن قدرة الرأسمالية على البقاء يرجع إلى أنها لم تستنفذ بعد إمكاناتها الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. يقول ماركس في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي": "لا ينهار نظام اجتماعي قبل أن تتطور كل القوى الإنتاجية المناسبة له (أو التي يوجدها)، ولا تحل علاقات إنتاج جديدة أعلى محل الأقدم ما لم تنضج الشروط المادية لوجودها في رحم المجتمع القديم. وهكذا لا تضع البشرية أمامها سوى المهام التي يمكنها أن تنجزها، بما أن الفحص الأدق يرينا دائما أن المهمة ذاتها لا تنشأ إلا عندما تكون شروط حلها حاضرة أو على الأقل في طريقها إلى التكون

(6)
ما الذي يحتويه المجلدين الثاني والثالث من "رأس المال" والذي جعل ماركس يحجم عن نشرهما؟ هل يحتويان على شئ أحبط الأمل الثوري لديه؟ الحقيقة أنه اكتشف فيهما قوانين جديدة للرأسمالية أوضحت له أن النظام الرأسمالي قادر على البقاء ولزمن طويل، قادر على المزيد من التوسع والتغلغل، وأن الأمل الثوري لن يتحقق إلا في مستقبل في غاية الابتعاد.
يتناول المجلد الثاني "عملية دوران رأس المال"، ومن بين موضوعاته الهامة التي أوضحت لماركس قدرة الرأسمالية على البقاء موضوعين أساسيين: تحولات رأس المال ودوراته" و"تجديد إنتاج إجمالي رأس المال الاجتماعي". في "تحولات رأس المال" يدرس ماركس الأشكال المختلفة التي يوجد عليها رأس المال والتي يتحرك بينها في شكل دائري كما لو كان يدور حول ذاته، فهو يوجد باعتباره رأس مال إنتاجي ورأس مال نقدي ورأس مال تجاري ورأس مال سلعي، وهو يتحول عبر هذه الأشكال كلها ليعود إلى نقطة انطلاقه مكررا الدورة مرة أخرى وإلى الأبد، والاعتماد المتبادل بين كل أشكاله هو ما يجعله نظاما عضويا مثل الكائن الحي، ويضفي عليه الكلية العضوية. أما الموضوع الثاني "تجديد إنتاج إجمالي رأس المال الاجتماعي" فيكشف فيه ماركس عن كيفية إعادة إنتاج النظام الرأسمالي لنفسه، وذلك عن طريق مثالين يضربهما ماركس: الأول وهو تجديد الإنتاج البسيط الذي يتضمن رأس المال الثابت ورأس المال الدائر؛ والمنتج النهائي يحتوي على قيمة الإثنين معا، وبالتالي ففي نهاية عملية الدورة السلعية وتحقق القيمة عن طريق البيع يعاود رأس المال إنتاج جزئيه الثابت والدائر. أما المثال الثاني فهو تجديد الإنتاج الموسع الذي يتضمن العلاقات المتداخلة بين قطاع إنتاج السلع الإنتاجية (القطاع أ) وقطاع إنتاج السلع الاستهلاكية (القطاع ب). هذان القطاعان يشكلان دائرة أخرى مغلقة على ذاتها بحيث يمد القطاع أ القطاع ب بالآلات ويمد القطاع ب القطاع أ بالسلع الاستهلاكية الضرورية لعماله.
(7)
إن تجديد الإنتاج الموسع عند ماركس هو الدورة الرأسمالية الكبرى التي تمثل العلاقات المتبادلة والمتداخلة بين قطاع إنتاج السلع الإنتاجية (القطاع أ) وقطاع إنتاج السلع الإنتاجية (القطاع ب)، وهو ما أطلق عليه "مخططات الإنتاج" Production Schemes ، وحلل بناء على هذا المخطط آليات عمل النظام الرأسمالي مشيرا إلى أزماته المختلفة المتمثلة في الكساد الذي يمكن أن يحدث للنظام كله نظرا لاعتماد القطاع أ على مبيعات القطاع ب من السلع الاستهلاكية. ووفق هذا المخطط فإن الأزمة الرأسمالية لا يمكن تفاديها، وقد نظر كثير من الماركسيين إلى أنها سوف تؤدي إلى انهيار الرأسمالية. إلا أن تطور الرأسمالية في القرن العشرين أتى معه بقطاع جديد للإنتاج وهو القطاع المنتج للأسلحة، وهو ما يمكن أن نسميه القطاع ج. هذا القطاع هو الذي مكن الرأسمالية من تفادي أزماتها والتعامل معها بنجاح، وكان علامة على ميلاد المركب العسكري الصناعي.
هذا المركب الذي يمثل التحالف بين الصناعة والحرب، وبين الدولة الرأسمالية والإمبريالية، كان حيويا للحفاظ على الرأسمالية ذاتها، نظرا لقيامه بتلبية المتطلبات التوسعية والقمعية في الصراع الدولي. إن الرأسمالية في حاجة إلى أن تتمركز سياسيا في دولة إمبريالية. وهي باعتبارها كذلك حازت على استقلال وتسيير ذاتي خاص بها فرض عليها متطلبات عسكرية إمبريالية وقمعية، وهيمتطلباتها الطبيعية باعتبارها جهاز حماية وفرض العلاقات الرأسمالية في العالم كله. هذا بالإضافة إلى أن السياسات الكينزية الهادفة إلى التوسع في إنفاق الدولة تندرج تحت القطاع ج، لأن الإنفاق العام للدولة في الغرب يذهب أغلبه في الأغراض العسكرية، في حين توهمنا النظريات الكينزية أنه إنفاق للأغراض الاجتماعية. الإنفاق الاجتماعي للدولة في الغرب يمثل نسبة ضئيلة للغاية في مقابل الإنفاق العسكري.
(8)
أما المجلد الثالث فمن بين موضوعاته الهامة التي أوضحت لماركس قدرة الرأسمالية على البقاء: قانون ميل معدل الربح نحو الهبوط. وينص هذا القانون على أنه كلما زاد رأس المال المستثمر كلما قلت ربحيته، وكلما زاد التطور التكنولوجي كلما ارتفعت الإنتاجية مما يؤدي إلى هبوط في الأسعار وبالتالي إقلال في الأرباح. ويتجه رأس المال بصورة متزايدة نحو تعقد في تركيبه العضوي، أي في زيادة رأس المال الثابت، وكلما تعقد تركيب رأس المال كلما قلت الربحية على المدى الطويل على الرغم من النمو والتوسع الظاهري. كما يزداد تعقد تركيب رأس المال المتغير والمتحول، أي كل تلك العمليات الوسيطة التي تقع بين الإنتاج ووصول المنتج إلى المستهلك الأخير (عمليات إدارة المشروع الرأسمالي وتضخم هيكله الإداري-زيادة حجم وتركيب عملية تحقيق القيمة في السوق مثل العمليات التجارية والدعاية)، بالإضافة إلى ظهور رأس المال المالي واستقلاله عن رأس المال الصناعي وظهور التناقض بينهما، إذ أن رأس المال المالي يستحق فوائد تكون عبئا على المشروع الصناعي، ويكون على رأس المال الصناعي أن يحقق ربحا لنفسه وفائدة لرأس المال النقدي ويحقق قيمة زائدة حقيقية تستطيع الوفاء بكل الالتزامات المالية لدورات رأس المال النقدي والتجاري والهياكل الإدارية المختلفة لكل نوع منها. وتوزع القيمة الزائدة على كل هذه العمليات الوسيطة يؤدي إلى هبوط في معدل الربح.
فهم معظم الاقتصاديين الماركسيين قانون ميل معدل الربح نحو الهبوط على أنه يشكف عن الانهيار الحتمي للرأسمالية، إلا أن القراءة المدققة للمجلد الثالث من رأس المال توضح أنه لا يكشف عن انهيار حتمي بل عن أزمة دورية يستطيع النظام الرأسمالي تجاوزها باستمرار، ذلك لأن الجزء الذي يضع فيه ماركس هذا القانون من المجلد الثالث ينقسم إلى قسمين: الأول يوضح فيه القانون نفسه وأسبابه التي وضعناها في الفقرة السابقة، أما القسم الثاني فيوضح الاتجاهات المعاكسة لهذا القانون والتي تعمل على تحييده مؤقتا إلى حين ظهوره من جديد، ولذلك فالقانون يصف أزمة دورية ولا يضع نبوءة بانهيار الرأسمالية.
وصف ماركس مجموعة من العوامل التي تقلل من تسارع هذا القانون والتي تعد توجهات مضادة له تحيده وتؤجل من فاعليته التدميرية، وهي الاحتكارات، وتكوين الجيش الصناعي الاحتياطي، والاستعمار. الاحتكار يعمل على اختزال كل العمليات الوسيطة من الإنتاج إلى الاستهلاك، بحيث تصبح الشركة هي المنتجة والمالكة لرأس المال النقدي وبذلك لا تحتاج إلى سوق الأسهم والبورصات، وهي أيضا البائع المباشر للمستهلك، وبذلك تقلل من تكاليف تحقق القيمة في السوق، بل هي كذلك تمتلك المصادر الطبيعية للمواد الخام وتسيطر على السوق، وتصبح متحكمة في كل العملية الاقتصادية من أولها إلى آخرها. يؤدي هذا إلى تقليل التكاليف وبالتالي المحافظة على الربح.
أما الجيش الصناعي الاحتياطي فهو العمالة العاطلة الدائمة. في كل مجتمع صناعي توجد نسبة معينة، تزيد وتنقص قليلا، من البطالة، تشكل جيشا احتياطيا لرأس المال لأنها تمكنها من توظيف عمالة بأجور أقل ومن وضع تفاوضي أفضل مع النقابات العمالية، ذلك لأن هذه الأخيرة ليس لها سيطرة إلا على العمالة الموظفة بالفعل، أما العمالة العاطلة فتخضع بالكامل لرأس المال لأنه هو وحده الذي يستطيع تشغيلها. هذا الجيش الصناعي الاحتياطي يمكن الرأسمالية من التحرك بحرية في سوق العمل فارضة أجورا متدنية منفلتة من رقابة النقابات وتشريعات العمل.
أما الاستعمار فيمكن الرأسمالية من الانتقال إلى مناطق لم تعرف بعد علاقات الإنتاج الرأسمالية، وبالتالي الاستفادة من التوسع الجغرافي والاستمرار في تحقيق القيمة الزائدة نظرا لرخص أسعار المواد الخام والعمالة في المستعمرات وفتح أسواق جديدة بها. هذا بالإضافة إلى أن التجارة الرأسمالية الخارجية مع بلدان أقل تطورا تعمل على زيادة الربح وتحقيق قيمة أعلى، نظرا لأن السلع المنتجة من قبل رأسمالية متطورة تحتوي على عمل بشري أقل ويتم تبادلها مع سلع البلدان الأقل تطورا التي تحتوي على عمل بشري أكثر، وبالتالي تتم مبادلة كمية أقل من العمل بكمية أكثر من العمل مما يزيد الربح الرأسمالي. نلاحظ في هذا السياق أن زيادة التركيب العضوي لرأس المال الثابت، أي زيادة تكنولوجيا الإنتاج، هو أحد عوامل ميل معدل الربح نحو الهبوط، لكن الرأسمالية تجعل هذا العامل نفسه عاملا في زيادة الربح عن طريق التجارة الخارجية مع البلدان الأقل تطورا. يقول ماركس: ".. إن نفس الأسباب التي تؤدي إلى هبوط في معدل الربح تتيح تأثيرات عكسية تمنع هذا الهبوط، وتؤخره وتشوش عليه. [هذه الأسباب] لا تلغي القانون بل تضعف من تأثيره"( ). هبوط معدل الربح موجود ومتحقق بالفعل، لكن ظهوره نسبي، إذ سرعان ما تعطله الاتجاهات المضادة له. هذا هو أحد أهم أسباب بقاء الرأسمالية التي اتضحت لماركس في المجلد الثالث على الرغم من تناقضاتها وأزماتها الدائمة التي كشف هو نفسه عنها.
(9)
لم يكن ماركس يطمح في كتابه "رأس المال" في أكثر من رصد القوانين الاقتصادية التي تحكم النظام الرأسمالي. واكتشف أن هذه القوانين ذات طبيعة جدلية، إذ تسير في اتجاهات معاكسة تحدث توازنا مؤقتا للنظام سرعان ما يختل مرة أخرى. فالنظام الرأسمالي يولد الأزمات التي يعمل على تجاوزها باستمرار مستخدما وسائل جديدة توقعه في أزمات جديدة مما تجعله يدور في حلقة مفرغة. لكن كيف الخروج عن هذه الدائرة الجهنمية؟ ذهب ماركس إلى أن نظاما جديدا لا يظهر للوجود ما لم يستنفذ النظام القديم كل إمكاناته وقدراته في التوسع وفي حفظ بقائه، ولا يمكن للنظام الرأسمالي أن ينهار إلا إذا سيطر على العالم كله أولا وتغلغل في كل ركن فيه وساد كل الشعوب؛ عندئذ تنغلق إمكانيات التوسع أمامه ولا يستطيع تصدير تناقضاته إلى خارجه لأنه لم يعد هناك خارج. وعندما يصل منحنى التطور الرأسمالي إلى قمته يبدأ في الهبوط. وبكلمة واحدة فإن توحيد العالم تحت راية الرأسمالية هو بداية انهيارها العالمي. العولمة هي التطور النهائي والمرحلة الأخيرة للرأسمالية، وبعدها سوف يكون الانهيار عالميا مثل صعودها العالمي تماما. يجب أن يتحد العالم في ظل الرأسمالية أولا كي تنضج شروط تجاوزها عالميا.

    د/ أشرف منصور



 

No comments:

Post a Comment