Monday, November 14, 2011

مصادر الماركسية الثلاثة



مصادر الماركسية الثلاثة واقسامها المكونة الثلاثة
فلاديمير لينين


يثير مذهب ماركس, في مجمل العالم المتمدن, اشد العداء والحقد لدى العالم البرجوازي, كله (سواء الرسمي ام الليبرالي), اذ يرى في الماركسية ضربا من ((بدعة ضارة)). ليس بالامكان توقع موقف آخر, اذ لايمكن ان يكون ثمة علم اجتماعي ((غير متحيّز)) في مجتمع قائم على النضال الطبقي. فكل العلم الرسمي الليبرالي يدافع, بصور او باخرى, عن العبودية المأجورة, بينما الماركسية اعلنتها حربا لا هوادة فيها ضد هذه العبودية, أن تطلب علما غير متحيّز في مجتمع قائم على العبودية المأجورة, لمن السذاجة الصبيانية كأن تطلب من الصناعيين عدم التحيز في مسألة ما اذا كان يجدر تخفيض ارباح الرأسمال من اجل زيادة اجرة العمال.
ولكن ليس ذلك كل ما في الامر, فان تأريخ الفلسفة وتأريخ العمل الاجتماعي يبينان بكل وضوح ان الماركسية لا تشبه (الانعزالية)) بشيء بمعنى انها مذهب متحجر منطو على نفسه, قام بمعزل عن الطريق الرئيسي لتطور المدنية العالمية. بل بالعكس, فان عبقرية ماركس كلها تتقوم بالضبط في كونه اجاب على الاسئلة التي طرحها الفكر الانساني التقدمي, وقد ولد مذهبه بوصفه التتمة المباشرة الفورية لمذهب اعظم ممثلي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية.
ان مذهب ماركس لكلّي الجبروت, لانه صحيح, ومتناسق وكامل ويعطي الناس مفهوما منسجما عن العالم, لايتفق مع أي ضرب من الاوهام ومع اية رجعية, ومع أي دفاع عن الطغيان البرجوازي. وهو الوريث الشرعي لخير ما ابدعته الانسانية في القرن التاسع عشر: الفلسفة الالمانية, الاقتصاد السياسي الانجليزي, والاشتراكية الفرنسية.
واننا سنتناول بأيجاز مصادر الماركسية الثلاثة هذه, التي هي في الوقت نفسه اقسامها المكوّنة الثلاثة.
-- 1 --
ان المادية هي فلسفة الماركسية, في غضون كل تأريخ اوروبا الحديث, لاسيما في اواخر القرن الثامن عشر, في فرنسا, حيث كان يجري نضال حاسم ضد كل نفايات القرون الوسطى, ضد الاقطاعية في النهاية, والامينة لجميع تعاليم العلوم الطبيعية, والمعادية للاوهام ولتصنّع التقوى و..الخ, ولذا بذل اعداء الديموقراطية كل قواهم لـ((دحض)) المادية, لتقويضها, للافتراء عليها؛ ودافعوا عن شتى اشكال المثالية الفلسفية التي تؤول ابرادا, على نحو أو آخر, الى الدفاع عن الدين أو الى نصرته.
وقد دافع ماركس وانجلس بكل حزم عن المادية الفلسفية وبيّنا مرارا عديدة مافي جميع الانحرافات عن هذا الاساس من اخطاء عميقة, ووجهات نظرهم معروضة بأكثر ما يكون من الوضوح والتفاصيل في مؤلفي أنجلس: ((لودفيغ فورباخ)) و((دحض دوهرينغ)), اللذين هما, على غرار ((البيان الشيوعي)), الكتابان المفضلان لدى كل عامل واع.
ولكن ماركس لم يتوقف عند مادية القرن الثامن عشر, بل دفع الفلسفة خطوات الى الامام, فأغناه بمكتسبات الفلسفة الكلاسيكية الالمانية, ولاسيما بمكتسبات مذهب هيغل, الذي قاد بدوره الى مادية فيورباخ. وأهم هذه المكتسبات, الديالكتيك, أي نظرية التطور بأكمل مظاهرها واشدها عمقا, واكثرها بعدا عن ضيق الافق, نظرية نسبية المعارف الانسانية التي عكس المادية في تطورها الدائم. ان احدث اكتشافات العلوم الطبيعية الراديوم, والالكترونات, وتحوّل العناصر قد اثبتت بشكل رائع صحة مادية ماركس الديالكتيكية, رغم انف مذاهب الفلاسفة البرجوازيين ورغم ردّاتهم ((الجديدة)) نحور المثالية القديمة المهترئة.
وقد عمق ماركس المادية الفلسفية وطوّرها, فانتهى بها الى نهايتها المنطقية ووسع نطاقها من معرفة الطبيعة الى معرفة المجتمع البشري. ان مادية ماركس التأريخية كانت اكبر انتصار احرزه الفكر العلمي, فعلى اثر البلبلة والاعتباط اللذين كان سائدان حتى ذلك الحين في مفاهيم السياسة والتاريخ, جاءت نظرية علمية, روعة في التناسق والتجانس والانسجام, تبين كيف ينبثق ويتطور, من شكل معين من التنظيم الاجتماعي, ومن جراء نمو القوى المنتجة, شكل آخر, ارفع, - كيف تولد الرأسمالية من الاقطاعية, مثلاً.
وكما ان معرفة الانسان تعكس الطبيعة القائمة بصورة مستقلة عنه, أي المادة في طريق التطور, كذلك تعكس معرفة الانسان الاجتماعية (أي مختلف الآراء والمذاهب الفلسفية اوالدينية والسياسية, ...الخ) نظام المجتمع الاقتصادي, ان المؤسسات السياسية تقوم كبناء فوقي على اساس اقتصادي, فاننا نرى, مثلا كيف ان مختلف الاشكال السياسية للدول الاوروبية العصرية هي اداة لتعزيز سيطرة البرجوازية على البروليتاريا.
ان فلسفة ماركس هي مادية فلسفية كاملة, اعطت الانسانية, والطبقة العاملة بخاصة, ادوات جبارة للمعرفة.
-- 2 --
بعد ما لاحظ ماركس ان النظام الاقتصادي يشكل الاساس الذي يقوم عليه البناء الفوقي السياسي, أعار انتباهه اكثر ما اعاره لدراسة هذا النظام الاقتصادي, ومؤلف ماركس الرئيسي ((رأس المال)) مكرّس لدراسة النظام القتصادي في المجتمع الحديث, أي الرأسمالي.
لقد تكون الاقتصاد السياسي الكلاسيكي, ماقبل ماركس في انجلترا, وكان اكثر البلدان الرأسمالية تطورا. فقد درس آدام سميث ودافيد ريكاردو النظام الاقتصادي فسجلا بداية نظرية قيمة العمل. وواصل ماركس عملهما. فأعطى هذه النظرية اساسا علميا خالصا وطورها بصورة منسجمة الى النهاية, وبين ان قيمة كل بضاعة مشروطة بوقت العمل الضروري اجمالا لانتاج هذه البضاعة.
و حيث كان الاقتصاديون البرجوازيون يرون علاقات بين الاشياء (مبادلة بضاعة ببضاعة أخرى), اكتشف ماركس علاقات بين الناس المنفردين. والمال(النقد) يعني ان هذه الصلة تزداد وثوقا, جامعة في كل واحد لايتجزأ كل حياة المنتجين المنفردين الاقتصادية. والرأسمال يعني استمرار تطور هذه الصلة. فان قوة عمل الانسان تغدو بضاعة. فالاجير يبيع قوة عمله لمالك الارض ولصاحب المصنع وادوات الانتاج, والعامل يستخدم قسما من يوم العمل لتغطية نفقات اعالته واعالة اسرته(الاجرة)؛ ويستخدم القسم الآخر للشغل مجانا, خالقا للرأسمالي القيمة الزائدة, التي هي مصدر ربح, مصدر اثراء للطبقة الرأسمالية.
ان نظرية القيمة الزائدة تشكل حجر الزاوية في نظرية ماركس الاقتصادية.
ان الرأسمال الذي يخلقة عمل العامل ينيخ بثقله على العامل, يخرب صغار ارباب العمل , وينشيء جيشا من العاطلين عن العمل. وانتصار الانتاج الضخم في الصناعة امر ظاهر من نظرة الاولى؛ ولكننا لنلاحظ ظاهرة مماثلة في الزراعة ايضا: فان تفوق الاستثمار الزراعي الرأسمالي الضخم واستخدام الآلات يزدادان, والاستثمارات الفلاحية تقع في ربقة الرأسمالي النقدي وتنحط ويحل بها الخراب تحت وطأة تكنيكها المتـأخر, ان اشكال هذا الانحطاط في الانتاج الصغير تختلف في الزراعة عنها في الصناعة, ولكن الانحطاط نفسه واقع لا جدال فيه.
ان الرأسمال, اذ يغلب على الانتاج الصغير, يؤدي الى زيادة انتاجية العمل والى خلق وضع احتكاري في صالح جمعيات الرأسماليين الكبار. وصفة الانتاج الاجتماعية تزداد بروزا يوم بعد يوم. مئات الآلاف والملايين من العمال يُجمعون في هيئة اقتصادية متناسقة, بينما قبضة من الرأسماليين تستملك نتاج العمل المتشترك. وتشتد فوضى الانتاج, والازمات والركض المجنون وراء الاسواق, وعدم ضمان العيش لسواد السكان.
ان النظام الرأسمالي يزيد من تبعية العمال ازاء الرأسمال ويخلق في الوقت نفسه قدرة العمل الموحد الكبيرة.
لقد تتبع ماركس تطور الرأسمالية من عناصر الاقتصاد البضاعي الاولية والتبادل البسيط وحتى اشكالها العليا, الانتاج الكبير.
وان تجربة جميع البلدن الرأسمالية, القديمة منها والجديدة, تبين بوضوح وسنة بعد سنة, صحة مذهب ماركس هذا لعدد متزايد ابدا من العمال.
لقد انتصرت الرأسمالية في العالم بأسره, ولكن هذا لانتصار ليس سوى المقدمة لانتصار العمال على الرأسمال.
-- 3 --
عندما دُك النظام القطاعي, ورأى المجتمع الرأسمالي ((الحر)) النور, تبين فورا ان هذه الحرية تعني نظاما جديدا لاضطهاد الشغيلة واستثمارهم, وفورا اخذت تنبثق شتى المذاهب الاشتراكية انعكاسا لهذا الاضطهاد واحتجاجا عليه, ولكن الاشتراكية البدائية كانت اشتراكية طوبوية. فقد كانت تنتقد المجتمع الرأسمالي, تشجبه, تلعنه, وتحلم بازالته, وتتخيل نظاما افضل؛ وتسعى الى اقناع الاغنياء بأن الاستثمار مناف للاخلاق.
ولكن الاشتراكية الطوبوية لم تكن بقادرة على الاشارة الى مخرج حقيقي. ولم تكن لتعرف كيف تفسر طبيعة العبودية المأجورة في ظل النظام الرأسمالي, و لا كيف تكتشف قوانين تطور الرأسمالية, ولا كيف تجد القوة الجماعية القادرة على انتصار خالقة المجتمع الجديد.
غير ان الثورات العاصفة التي رافقت سقوط الاقطاعية, القنانة, في كل مكان من اوروبا وخاصة في فرنسا, بينت بوضوح متزايد على الدوام ان النضال الطبقي هو اساس كل التطور وقوته المحركة.
فما من حرية سياسية تم انتزاعها من طبقة الاقطاعيين دون مقاومة يائسة. وما من بلد رأسمالي قام على اساس حر, ديموقراطي, الى هذا الحد أو ذاك, دون قيام نضال حتى الموت بين مختلف طبقات المجتمع الرأسمالي.
ومن عبقرية ماركس, انه كان أول من استخلص هذا الاستنتاج الذي ينطوي عليه التأريخ العالمي وطبقه بصورة منسجمة الى النهاية, وهذا الاستنتاج هو مذهب النضال الطبقي.
لقد كان الناس وسيظلون ابدا, في حقل السياسة, اناسا سذجا يخدعهم الآخرون ويخدعون انفسهم, ما لم يتعلموا استشفاف مصالح هذه الطبقات او تلك وراء التعابير والبيانات والوعود الاخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية. فإن انصار الاصلاحات والتحسينات سيكونون ابدا عرضة لخداع المدافعين عن الاوضاع القديمة طالما يدركوا ان قوى هذه الطبقات السائدة او تلك تدعم كل مؤسسة قديمة مهما ظهر فيها من بربرية واهتراء, فلكي نسحق مقاومة هذه الطبقات ليس ثمة سوى وسيلة واحدة هي ان نجد في نفس المجتمع الذي يحيط بنا القوى التي تستطيع وينبغي عليها بحكم وضعها الاجتماعي ان تغدو القوة القادرة على تكنيس القديم وخلق الجديد ثم ان نثقف هذه القوى وننظمها للنضال.
فقط مادية ماركس الفلسفية بينت للبروليتاريا الطريق الواجب سلوكه للخروج من العبودية الفكرية التي كانت تتخبط فيها حتى ذلك جميع الطبقات المظلومة. فقط نظرية ماركس الاقتصادية اوضحت وضع البروليتاريا الحقيقي في مجمل النظام الرأسمالي.
ان المنظمات البروليتارية المستلقة تتكاثر في العالم باسره من امريكا الى اليابان ومن اسوج الى افريقيا الجنوبية, والبروليتاريا تتعلم وتتربى في غمرة نضالها الطبقي وتتحرر من اوهام المجتمع البرجوازي وتزداد تلاحما على الدوام وتتعلم كيف تقدر نجاحاتها حق قدرها وتوطد قواها وتنمو بشكل لا مرد له.
* ف.إ.لينين في 3 آذار 1913، المؤلفات الكاملة
*********


No comments:

Post a Comment