Monday, June 4, 2012

الثورة في مفترق الطرق الانتصار المحقق وحدوده

الثورة في مفترق الطرق الانتصار المحقق وحدوده
الثورة في مفترق الطرق الانتصار المحقق وحدوده

أسقطت الثورة مبارك رأس نظام الاستبداد والفساد والتبعية للامبريالية والصهيونية ، فتحية إجلال وتهنئة حارة لشعبنا البطل علي هذا الانتصار الكبير. ولهذا الانتصار أهميته المعنوية الهائلة كونه فرضا لإرادة الشعب علي جلاديه ، وأهميته السياسية الكبيرة كونه ضربة نافذة لأكبر رموز الاستبداد والفساد والتبعية هزت وزلزلت أركان النظام .

ومع ذلك فإزاحة مبارك ليست إلا الحلقة الأولي في سلسلة حلقات أساسية ضرورية حتى تنتصر الثورة انتصار حاسما . إنها حلقة أساسية في المرحلة الأولي من الثورة المصرية وهي إسقاط النظام القديم كمقدمة لمرحلتها الثانية وهي بناء النظام الجديد . ويزعم بعض من يدعون معارضتهم النظام وتأييدهم للثورة ، بل يزعم أبواق النظام أنفسهم في الصحف والتلفزيون والإذاعة التابعة له ، أن النظام قد سقط وأنه شرع بالفعل في بناء الجديد الذي طالبت به ثورة الشعب. وليس هذا الادعاء إلا كذبا وبهتانا بهدف احتواء الثورة وإجهاضها واستمرار القديم بتحويره قليلا ، بل وتحضيرا لثورة مضادة كاملة لثورة الشعب إذا ما وهن وتضعضع دفعها .

لم يسقط بعد النظام، وأسسه وقواعده الجوهرية السياسية والاقتصادية لا تزال مستمرة . وما لم تجابه الثورة هذه القواعد وتدك تلك الأسس مواجهة ودكا جذريين وتنهيهما تماما فسيستطيع النظام أن يستمر مغيرا وجهه محورا وسائله في قهر الشعب وتكثيف نهب واستغلال كده وكدحه .

أسس وقواعد بقاء النظام

1 –
تولي المجلس العسكري الأعلى للسلطة التي عهد بها إليه مبارك قبل تنحيه . وهو مشكل من العناصر القيادية الرئيسية في المؤسسة العسكرية التي شكلت المرتكز الرئيسي التي اعتمد عليها حكم مبارك ليفرض به وبأجهزة الأمن التابعة للداخلية سياساته المعادية للشعب والمفرطة في الحقوق الوطنية وفي الأمن الوطني المصري والقومي العربي ، وهي التي أتت لتنقذ النظام من الانهيار بعد أن شلت قوة الشعب الثائر الهادرة أجهزة وزارة الداخلية العاتية ، وهي التي خضعت بقيادتها في عهدي السادات ومبارك لمعاهدة الإذعان مع عدونا المباشر إسرائيل التي تحرم الجيش المصري من التواجد علي معظم أراضي سيناء والتي قبلت بعلاقات التعاون العسكري مع أخطر القوي الاستعمارية وأعداء بلادنا الرئيسيين أمريكا وحلف الأطلنطي وبالتسهيلات الممنوحة للقوات الأمريكية ومناورات النجم الساطع معها ومع دول حلف الأطلنطي في أراضي مصر وبحارها وسمائها.

حقا تعامل الجيش بقدر ملحوظ من اللين والمرونة الواضحة مع الثائرين وتجنب أي اعتداء مباشر عليهم ، ولكن الراجح أن ذلك كان من قبيل حسن تقديره عواقب التصدي العنيف لثورة انخرط فيها ملايين المصريين ومعولا علي عامل إنهاك الثائرين مع إطالة الوقت اللازم للثوار لبلوغ لحظة الحسم . فمجرد نزول الجيش للشوارع والميادين قيد حرية وقدرة الثوار علي استخدام الوسائل الحاسمة لإسقاط النظام "سلميا " وهي حصار مؤسسات الحكم والاستيلاء عليها كالقصر الجمهوري والبرلمان ومجلس الوزراء ومبني التلفزيون ووزارة الداخلية . ولم تكن مصادفة تنحي مبارك وتخويل السلطة للمجلس العسكري في اليوم التالي لحصار مجلس الشعب والشورى ومجلس الوزراء وفي اليوم الأول لبدء بضعة آلاف من الثوار في حصار القصر الجمهوري . لو كانت قيادة الجيش مؤيدة لمطالب الشعب لأعلنت مع مد الثورة العالي الذي صاحب وأعقب نزوله للشارع انضمامه للثورة . لقد أتي المجلس الأعلى للقوات المسلحة لقطع الطريق علي اتخاذ الثوار لخطوات الحسم ، وعلي شمول الثورة كل طبقات الشعب بلا استثناء وخاصة الانخراط الشامل للعمال والموظفين وكافة الطبقات الشعبية فيها وفي اللحظة التي غدت فيها إمكانية هذا التطور أمرا واضحا كالشمس يوم الخميس 9 فبراير، والجمعة 10فيراير الذي أعلن فيه مساءا تنحي مبارك وتولي المجلس العسكري الحكم .

2 -
إن تخويل السلطة للمجلس العسكري هو الانقلاب الذي هدد به سليمان ومن بعده أبو الغيط قوي الثورة بصيغة إما الحوار أو الانقلاب. ولا ينال من ذلك أن الانقلاب جاء مصحوبا بتنحي مبارك لتهدئة الثوار. فالنظام باق في صيغة فرض حكم عسكري " مؤقت " ردا علي رفض قوي الثورة ما يسمي حوار كان يعني التخلي عن الثورة . ولو كان استلام المجلس العسكري للسلطة قد حدث من موقع التأييد لمطالب الثورة لأعلن انضمامه للثورة والموافقة علي برنامجها ولو في حده الأدنى المتفق عليه بين قواها وهو ما لم يحدث . لذلك فان وعوده لن تسفر وفي أفضل الفروض إلا عن إصلاح في إطار ذات النظام وفي الحدود التي كان مبارك قد أجبر عليها قبل رحيله أي حريات مقيدة وديمقراطية شكلية محورة قليلا عما كانت عليه قبل الانقلاب العسكري والمتمثلة في ترقيع الدستور الحالي بتعديل البنود التي توفر حرية التنافس علي منصب رئيس الجمهورية ومدد ولايته وقدرمن نزاهة الانتخابات العامة والنذر اليسير من الحريات المدنية ، وتحتفظ بنفس السياسات الداخلية والخارجية في جوهرها وتتجاهل القاعدة الأولي المؤهلة لبناء نظام سياسي بديل وهي إطلاق الحريات الديمقراطية السياسية والنقابية والعامة ، وهذا هو السبب في محاولة أركان النظام قطع الطريق علي تطور الثورة وانتصارها.

3 -
النظام باق ،أساسا، في علاقات التبعية للامبريالية الأمريكية والإذعان للكيان الصهيوني ، وفي نموذج الاقتصاد التابع الذي تحتذيه الدولة الذي يعيد إنتاج التخلف المستدام لتناقضه المستعصي علي الحل مع طريق التطور الاقتصادي الوحيد الصحيح وهو بناء قاعدة صناعية زراعية تكنولوجية محلية حديثة معتمدة أساسا علي الذات ، النظام باق في سيطرة طبقة معينة علي اقتصادنا ومن ثم علي جهاز الدولة وسياستها الداخلية والخارجية وهي طبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة للخارج المستفيدة من فقدان مصر لقاعدة النمو الذاتي وتحقق الأرباح الطائلة من خلال علاقات الوكالة والوساطة والتجارة الخارجية . وستستمر بل ستتكرس سيطرة هذه الطبقة حتى إذا اتسعت حدود الديمقراطية الشكلية في مصر باستبدال حكم هذه الطبقة بصورة متوازنة بين أفرادها وشرائحها المختلفة بحكم الفرد من ذات الطبقة الذي كان عليه حكم مبارك . فلا يخفي علي غير الغافلين أن بعض شرائح هذه الطبقة ، علي شاكلة نجيب ساويرس ورامي لكح مثلا أو معبريها السياسيين ممن أيدوا ولا يزالون يؤيدون سياسة الدولة في توجهاتها الأساسية في عهدي السادات ومبارك مثلا كعمرو موسي والبرادعي وأيمن نور وأسامة الغزالي حرب ، لا يريدون - مثل هؤلاء - من مناداتهم بالديمقراطية غير استبدال حكم الطبقة المذكورة الذي لا يفرق بين أفرادها وشرائحها بحكم مبارك الفردي الذي مثل أيضا نفس الطبقة مع قدر كبير من التحيز لحاشيته ومحاسيبه ، لكنها تظل ديمقراطية الكمبرادور ( الوكلاء والوسطاء ) والتابعين وليست ديمقراطية للشعب.

ولم يرد في بيانات المجلي الخمس الصادرة حتى الآن أي إشارة من قريب أو بعيد للمساس بسيطرة الطبقة السائدة أو بعلاقات التبعية للامبريالية والخضوع للكيان الصهيوني بل علي العكس أكد البيان الرابع علي التزامه بكل الاتفاقيات الدولية . لا يتعلق أمر هذه الاتفاقيات فقط باتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة 1979 مع إسرائيل، والتي نقدر أن قيادة القوات المسلحة المصرية التي تولت كل سلطات الدولة ليست اليوم في ظرف ووضع ملائم يسمح لها بإعلان توجهها لإلغائها حتى ولو افترضنا جدلا رغبتها في ذلك . فالكثير من الاتفاقيات والارتباطات التي أعلن المجلس التزامه بها – بخلاف كامب ديفيد والمعاهدة - تقوم علي القبول بعلاقات التبعية السياسية والعسكرية والاقتصادية للامبريالية والخضوع لإسرائيل مثل اتفاقيات الكويز والغاز مع إسرائيل والمعونة الأمريكية المشروطة والمخربة لاقتصادنا وتعليمنا والتسهيلات والقواعد الأمريكية ومناورات النجم الساطع والتعاون والتنسيق في ما يسمي الحرب علي الإرهاب والشراكة مع حلف الأطلنطي والارتباط بعجلة السياسة الأمريكية في المنطقة وغيرها.

4 -
إن إعلان مبارك ونائبه سليمان قبل التنحي والمجلس العسكري بعدهما عن إحالة بعض رموز الفساد للتحقيق هو من قبيل التضحية ببعض كباش فداء للقوام الرئيسي للنظام ، و ما أعلن عن الاتجاه لمحاسبة أفراد الشرطة والذين أطلقوا الرصاص ليس إلا خداعا وتسترا علي من أصدر الأوامر بقتل أبناء الشعب ، وكذلك الإجراءات الأخرى كإعلان تحديد الإقامة الجبرية لبعض المسئولين السابقين أو الإعلان بعدم التصريح لعدد من الوزراء السابقين والمسئولين بالسفر قبل العرض علي المجلس العسكري أو التحفظ علي أموال وحسابات بعضهم لحين التحقيق . فهي لا تهدف إلا إلي إيهام جماهير الشعب بان النظام قد أصبح علي حين غرة جاد في مكافحة الفساد وأغلبها صدر نتيجة للبلاغات التي تقدم بها بعض المواطنين تحت تأثير الصحوة التي أطلقتها الثورة ضد هؤلاء المسئولين للنائب العام. وإمعانا في التمويه والخداع قد يتم توجيه اتهامات لعدد من رموز الفساد (قد يكون فيهم مبارك) وحبسهم احتياطيا حسب القانون ومحاكمتهم انقادا للنظام من غضبة الشعب .

لكن جذور الفساد ستظل منغرسة في تربة بلادنا لتترعرع سريعا من جديد، طالما استمر سيطرة طبقة الرأسمالية الكمبرادورية والتابعة علي مفاصل اقتصادنا ، وطالما استمرت علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدول الامبريالية . فمسألة الفساد أعمق من فساد أشخاص المسئولين والحكام وتتعلق بضعف وتخلف الطبقة الرأسمالية المصرية بما فيها الفئات صاحبة مركز الثقل في سلطة الدولة وفي الاقتصاد وعجزها عن تحقيق تراكم الأرباح والثروة الخاصة التي تحققها بدون مساندة مباشرة وتحيُّز وتسهيلات أجهزة الدولة المعنية وبدون الضغط الوحشي / العبودى علي أجور العمال وغيرهم من الكادحين ودخول الفلاحين الفقراء والمتوسطين ، إنه نوع من التراكم البدائي لرأس المال المصري الذي يتحقق عن غير طريق إعادة الإنتاج الموسع . ولذلك لم يؤد انحياز الدولة وأداة حكمها وظهور ما أسماه بعض الاقتصاديين التقدميين المصريين رأسمالية المحاسيب إلي سحب تأييد القاعدة الأوسع للرأسمالية الكبيرة المصرية لجماعة الحكم الحالية ، لأنهم جميعا تقريبا يتطلعون للحصول علي تسهيلات الدولة وتحيزاتها. أن الدولة ليست فقط أداة الطبقة المالكة فحسب ، وإنما أيضا- وضمن شروط معينة تنطبق علي دول عديدة في العالم منها حاليا مصر- أداة لتكوين وإنماء الطبقة المالكة ـ بل كانت ولا تزال أيضا وعلي امتداد التاريخ والصعيد العالمي كله أداة خلق طبقة مالكة جديدة إذا كان قد تم الإطاحة بالطبقة القديمة أو تدميرها لسبب ما من الأسباب .

النظام لا يزال موجودا بالمعني الكلي - الاجتماعي السياسي - أي بنظام الحكم والطبقة التي يمثلها والسياسات الأساسية التي ينتهجها ، بل هو باق أيضا بالمعني الجزئي - السياسي - المتعلق بنظام الحكم غير الديمقراطي بالمحاولات المستميتة لقوي النظام التي لم تسقط بعد حصر التغيرات التي طلب الشعب إجرائها فيه في أضيق الحدود.

رغم كل ذلك أحدثت ثورة 25 يناير تغيرا هائلا في المجتمع المصري هو انجازها الأهم والأكبر حتى الآن وهو الصحوة والروح الجديدتان لشعبنا اللتان طال انتظار عودتها ليجابه ايجابيا وثوريا انتهاك حرياته وحقوقه ، وليستعيد الكرامة والاستقلال الوطنيين الكاملين لوطنه الغالي مصر ، ولينطلق طموحه لإقامة دولة أمينة حقا علي كل ذلك . وهذه الروح وتلك الصحوة هما الركيزة الأساسية لاستمرار الثورة وتحقيق كل أهدافها إذا ما حافظنا عليهما وأغنيناهما بمزيد من الوعي والتنظيم اللذين يزيدان طاقتهما الخلاقة أضعافا مضاعفة .

ثورة 25 يناير كحلقة في مسيرة الثورة المصرية

عبرت فئات الشعب والقوي السياسية المختلفة التي شاركت في الثورة عن أهداف ومطالب الثورة بقدر كبير من التفاوت في الوضوح والشمول فيما بينها . ومع ذلك فمن الواضح إن هذه الأهداف والمطالب تندرج في إطار الثورة المصرية التاريخية الوطنية الديمقراطية التي لم يستكمل انجازها بعد ، مما أبقي علي تخلف بلادنا اقنصاديا وثقافيا وسياسيا واستمرار تبعيتها للامبريالية وعجزها أمام ممارساتها وأدواتها وفي مقدمتها الكيان الصهيوني . وتتعلق هذه الأهداف والمطالب في المقام الأول بحلقة هامة في مسيرة هذه الثورة تجاه انتصارها وانجازها التام وهي تأسيس جمهورية ديمقراطية برلمانية تستكمل أسس الدولة المدنية ، وتحرر اقتصادنا من التخلف والتبعية للامبريالية العالمية، وتبني اقتصاد حديث متطور معتمد أساسا علي الذات ، وتوفر حياة كريمة للشعب.

ويتطلب إقامة هذه الجمهورية الجديدة وبالضرورة شرطين أساسيين . الأول فصل الدين عن الدولة ـ حتى نحقق فعلا لا قولا فقط الدولة المدنية، باحترام الأساس الأول للديمقراطية وهو المواطنة والمبدأ الرئيسي للديمقراطية وهو سيادة الشعب ، ونطلق حرية الفكر والبحث والتشريع متوخين مصالح الشعب ـ ومسترشدين بأرقي وأحدث منجزات العلم والفكر الإنساني دون تقيد إلزامي بأفكار وأحكام وتأويلات أسلافنا الصالحين التي لم تكن لتستطع أن تتخطي تصورات عصر الإقطاع الذي صدرت فيه . أما الثاني فهو التوجه الجاد والحازم نحو استكمال الاستقلال والكرامة الوطنيين وإعداد بلادنا شعبا وحكومة وجيشا لإلغاء معاهدات واتفاقيات وارتباطات الإذعان والتبعية وعلي رأسها معاهدة 1979 مع الكيان الصهيوني . فالديمقراطية، إذاعرفناها كحكم الشعب ، لا تعيش وتستقر في دولة تابعة وعاجزة عن الخلاص من تخلفها ما لم تحرر نفسها من واقع تبعيتها الاقتصادية والسياسة والعسكرية ومن فقدانها لقرارها الوطني المستقل في شئونها الداخلية والخارجية.

اللحظة الراهنة في مسيرة الثورة

1 -
كشف سقوط مبارك وأبرز التمايز بل التناقض في صفوف القوي المشاركة في الثورة والملتحقة بها بين القوي الجذرية التي تريد أن تمضي بها قدما حتى الإسقاط التام للنظام ، وبين القوي الوسطية والإصلاحية والسياسية الدينية التي لم تستهدف من مشاركتها فيها إلا إلي فرض إصلاح دستوري وتشريعي في إطار ذات النظام علي النحو السابق بيانه ، ورأت في سقوط مبارك بعد موافقته علي هذا الإصلاح وتوجهات المجلس العسكري بتنفيذه ما يبرر وقف الثورة عند هذا الحد ، والعمل بالتوافق مع المجلس.يتجسد هذا التباين الآن في الموقف من الإعداد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة مرتكزة علي خطة المجلس العسكري للإصلاح .فبينما تعارضها القوي الديمقراطية الجذرية باعتبارها أداة الالتفاف علي الثورة وإعادة إنتاج النظام السياسي قبل ان تتمكن الثورة من تغيير توازن القوي الاجتماعية السياسية لصالحها تغييرا جذريا ، رحبت بها القوي الوسطية والإصلاحية والإخوان المسلمين انطلاقا من أهدافها من الثورة .

كما انعكس هذا التباين في التراجع النسبي السريع لأعداد المتظاهرين والمعتصمين لإسقاط النظام في ميدان التحرير وغيره من الميادين والشوارع في أنحاء البلاد حتى كاد الميدان يخلو منهم وأخلي الجيش الأعداد القليلة التي بقيت فيه تماما وفتح للمرور خلال ثلاثة أيام من تنحي مبارك . ولقد اتفق الفر قاء علي التجمع في ميدان التحرير يوم الجمعة 18 فبراير ولكن من منظورين مختلفين بصورة أساسية . الأول للاحتفال بالنصر وكفي والثاني لمواصلة الثورة . ولعل السبب الأساسي في هذا التراجع النسبي الملموس للحشود السياسية في ميدان التحرير وغيره واتخاذ ما يحدث منها طابعا احتفاليا هو الشخصنة التي أشاعتها في السنوات القليلة الماضية قوي وسطية وإصلاحية وسياسية دينية وجماعات أخري مشبوهة للصراع مع النظام ، والمماثلة بين الرئيس والنظام . وهو ما كان واضحا في الشعارات التي كانت لها الغلبة في الميدان والمظاهرات وما أسفر عن شيوع مبالغة هائلة في تقييم الانجاز الذي يمثله تنحي مبارك وغلبة إحساس زائف بانتصار الثورة شبه التام ( والذي يتصورالمتورطون فيه أنه سيصبح تاما بعد استعادة ثروة مبارك وغيره من رموز جماعة الحكم الفاسدين ) أو تحقيقها لأهم أهدافها بين أعداد كبيرة من الجماهير خاصة بين الشباب الذين أطلقوا شرارة الثورة .

وما حدّ حتى اليوم من تراجع قوة دفع الثورة الناجم عن موقف القوي التي انتقلت بالفعل للمصالحة مع النظام أو داعبتها الفكرة ودعم مجددا خط المضي قدما بالثورة ، هو أن سقوط مبارك أطلق الحركة الاضرابية العارمة في أوساط الطبقات الشعبية والكادحة . ففي الفترة التالية لتنحي مبارك وحتى اليوم سارع من لم يكن قد شارك بصورة مباشرة في الثورة وخاصة من العمال والموظفين وغيرهم من الكادحين للدعم المباشر للثورة فأعطوا الحرية والديمقراطية التي طالب بها الشباب الذي أطلق شرارتها عمقها الشعبي الأصيل .عرضت جميع فئات الشعب مظالمها وطرحت مطالبها العاجلة والملحة وطالبت بتغيير مؤسسات النظام في بنيته التحتية بتغيير رؤساء أو مجالس إدارات المؤسسات والشركات المختلفة وحل النقابات الخاضعة لوصاية أمن الدولة ورجال الأعمال وإعادة هيكلة نظام الأجورالفاسد وغيرها من المطالب المتعلقة بالمؤسسات والجهات التي تعمل بها . ورغم أن العمال لم يقرنوا في أغلب المواقع مطالبهم الاقتصادية والنقابية بالمطالب السياسية للثورة بصورة مباشرة إلا انه لا يخفي أنها الخلفية التي أطلقت منها حركتهم الاضرابية العارمة وطرحت مطالبها انطلاقا وكجزء لا يتجزأ من مطامحهم في إقامة مجتمع يسوده الحرية والعدل وتحترم فيه كرامة الإنسان ويصعد علي مدرج التقدم الاقتصادي والاجتماعي في كل المجالات التي أطلقت الأمل في إقامته ثورة 25 يناير.

2 -
يتجلي الخلاف بين التيار الثوري وبين التيار الإصلاحي في صفوف الثورة في الموقف من الحركة الاضرابية العمالية والشعبية . ففي حين يعتبرها الأولون اتساعا وعمقا وتجذيرا للثورة يعتبرها الأخيرون حركة مضادة للثورة . الليبراليون منهم وفي غالبيتهم يعارضونها كحركة تدفع بالثورة لتتجاوز هدفهم في تحقيق حرية تداول الحكم وترك ما تبقي من شئون المجتمع لآليات السوق مع عدم المساس جوهريا بعلاقات التبعية للامبريالية والخضوع للكيان الصهيوني. ومن ينتمي منهم للتيار الديني يعارضها كما هو واضح في مواقف الإخوان الأخيرة باعتبارها حركة تدفع في اتجاه استمرار الثورة وتجذيرها يعوق توجههم للنزول بأهداف الثورة إلي مجرد إصلاح دستوري وتشريعي محدود في إطار النظام، والإبقاء علي الدستور بعد تعديل المواد الست التي وافق المجلس العسكري علي تعديلها مع قانوني مباشرة الحقوق السياسية ومجلس الشعبوتشكيل لجنة برئاسة المستشار البشري المنتمي للتيار الديني لاقتراح التعديل .وقبل ذلك وبعده فان نهوض الحركة العمالية والشعبية باعتباره إطلاقا لمبادرة الجماهير لا يستقيم مع نهجهم في تديين الحياةالاجتماعية وطمس الصراع الطبقي وفي إبقاء المبادرة في يد أمير الجماعة أو مرشد الثورة أو الدولة ، وفي مقاومة التحرر الفكري والسياسي للجماهير وحصر أفقها الفكري والثقافي في إطار أفكار السلف "الصالح" ابتغاء للدولة الدينية .

3 –
أصدر المجلس العسكري مساء الجمعة 18 يناير بيانا حذر فيه من استمرار الاضرابات والاعتصامات العمالية ، ومتوعدا بمجابهتها واتخاذ الإجراءات القانونية حيالها ، ومحرضا لمن أسماهم الشرفاء للتصدي لما أسماه عناصر غير مسئولة والتي تعني في هذه السياق عمال مصر وموظفيها الكادحين المضربين والمعتصمين. وقد سبق في ذات اليوم دعوة الفقيه الأكبر للتيار السياسي الديني في خطبة الجمعة التي اختار لها ميدان التحرير،والتي نقلها التلفزيون المصري الحكومي علي قنواته الفضائية والأرضية،إلي إنهاء الاعتصامات والاحتجاجات والاضرابات العمالية ، مطالبا " كل من عطل العمل بالاعتصام أو الاحتجاج أو الإضراب بتأييد الثورة بالعمل فلا يجوز لنا أن نكون سببا في تأخير مصر اقتصاديا" ، وداعيا إلي " الصبر علي إخواننا في الجيش حتى تتحقق الآمال كلها واحدا تلو الآخر " . هكذا يبارك القرضاوي المجلس العسكري الركيزة الأساسية للحفاظ علي النظام وإعادة إنتاجه ويدعو صراحة لإنهاء الثورة ، ويشي بصفقة وشت بها أيضا تصريحات ومواقف سابقة لممثلي الإخوان لتخريب ثورة شعبنا وإجهاضها ، وذلك تمهيد من الإخوان لمحاولة سرقتها بإقامة الدولة الدينية الظلامية المكتملة أو بكلمات طارق البشري مساء الخميس 17 يناير رئيس لجنة تعديل الدستور في برنامج "علمتني الحياة" بقناة المحور الذي قال "أنا مع مصر التي تستكمل الصيغة الإسلامية".

4 –
ثورة 25 يناير تقف الآن علي مفترق طرق . قامت الثورة لإسقاط النظام السياسي القائم ووضعت في مقدمة مقومات النظام البديل إقامة ديمقراطية برلمانية . وبلغ التركيز علي هذه القضية حد قيام أغلب القوي السياسية وخاصة الشباب بإرجاء أو تهميش الاهتمام بالقضايا الأخرى المرتبطة بها بالضرورة خشية أن تؤدي الخلافات القائمة والمحتملة بشأنها - كما ظنوا - إلي إضعاف التفاف جماهير الشعب والقوي المختلفة حولها . وفي اللحظة الراهنة يحاول النظام راب الصدع الذي أحدثته الثورة وخلع مبارك فيه بالالتفاف حولها ، مدعيا تأييده لمطالبها وشروعه في الاستجابة لها وكسب الوقت لتجميع قواه ، مستثمرا لميول شاعت في أوساط الليبراليين للتهدئة والتفاهم مع المجلس العسكري والصبر عليه ، ومستغلا العداء الأصيل من جانب الإخوان وكافة فرق التيار السياسي الديني للديمقراطية وخاصة الدولة المدنية التي طالبت بها الثورة. الثورة إذن تقف علي مفترق طرق . فإما أن تستمر الثورة وتتسع وتتجذر بالمشاركة الواسعة والطليعية فيها للعمال وغيرهم من الطبقات الشعبية الكادحة فتستكمل إسقاط النظام وتؤسس النظام الجديد ، أو أن تحدث التهدئة ويستمر وهم تحقيق أهم مطالب الثورة (رحيل مبارك) ويقتصر انجازها ، في أفضل الاحتمالات ،علي الإصلاح السابق ذكره في إطار النظام وإعادة إنتاجه بوجوه جديدة . أما في أسوأها فيتم تجميع قوي النظام والطبقة التي تقف ورائه لشن ثورة علي الثورة ، ثورة مضادة ، تفرض ديكتاتورية غاشمة جديدة ، أو أن يستثمر الإخوان وغيرهم من دعاة الدولة الإسلامية التهدئة الحادثة وتفاهمهم مع المجلس العسكري لسرقة الثورة أو الانقضاض عليها بصورة أو أخري خاصة إن كان لهم فرع قوي داخل القوات المسلحة وتنظيم سري خاص خارجها فيفرضوا علينا استبدادا يتضاءل أمامه شان الاستبداد الذي قامت الثورة لإسقاطه .

ما يتطلبه استمرار الثورة وانتصارها

تحدث الثورة السياسية تحت شروط لا تجتمع معا في وقت واحد بسهولة ، وان حدثت قد لا تنجح لغياب بعض الشروط الضرورية لنجاحها . وقد انطلقت ثورة25 يناير وانخرط فيها الشعب انخراطا واسعا فبل استيفاء بعض الشروط الأساسية اللازمة لنصرها الحاسم وأهمها البرنامج المتسق والطليعة السياسية المنظمة والمتمرسة في النضال السياسي والقادرة علي تشكيل قيادة موحدة للثورة بقواها المختلفة. ولكن الثورة قد حدثت. ولانطلاق النزوع الثوري لجماهير الشعب الغفيرة قانونه الخاص الذي لا تتحكم فيه الأحزاب والطلائع السياسية الممثلة للشعب ، وإنما عليهم إن حدث حتى وإن لم يكونوا قد قدروه أو تنبئوا به مسبقا أن يستجيبوا له دون أي تباطؤ وأن يعملوا أقصي ما يمكن عمله لنجاح الثورة .

قامت الثورة في يناير وهي الآن ، كما أوضحنا ، علي مفترق ـ فما الذي يتعين علي القوي الثورية انتهاجه لتخرج الثورة من مفترق الطرق إلي طريق إحراز نصرها واستكمال أهدافها ؟

إن الثورة السياسية لا تحدث إلا في توقيتات استثنائية وقد انتظرناها طويلا حتى فاجأتنا بعد أن تصورنا أنها لا زالت بعيدة . لذلك لا يجوز لأي مناضل شريف أن يقصر أدني تقصير في استثمار اللحظة الثورية والعمل علي المضي قدما بالثورة لتحقيق نصرها الحاسم . علينا ألا تتخلي عن العمل والأمل في نجاح الثورة أمام المصاعب التي تعترضها . والعامل الحاسم هو وجود أو عدم وجود مد جماهيري ثوري . والمد لا يزال موجودا وان تراجع نسبيا في الأيام الأخيرة . وحتى إن تراجع كثيرا بعد ذلك فيحب أن نتمسك بأهدافنا ونعمل بالوسائل المناسبة تحضيرا وحثا علي عودة المد الثوري مرة أخري .

واليوم يجب أن ندين ونفضح أمام جماهير شعبنا كل محاولات الالتفاف حول الثورة ، أو إجهاضها ، أو سرقتها ، أو الإعداد لثورة مضادة لها، وان ندعو لاستمرار الثورة حتى تحقيق كامل أهدافها وذلك بتبني المطالب التالية :

أولا : إطلاق الحريات فورا وبلا قيود : حرية تكوين الأحزاب والنقابات وإصدار الصحف بالإخطار، وحرية الاجتماع والتظاهر والإضراب عن العمل كحق أصيل للعمال وليس للنقابة العامة أو اللجنة النقابية فقط ، وإلغاء حالة الطوارئ ، مع رفض إجراء أي انتخابات برلمانية أو رئاسية قبل إطلاق الحريات بوقت كاف لا يقل عن عام .

ثانيا : الإفراج عن المعتقلين والمسجونين السياسيين وإلغاء محاكم أمن الدولة ومباحث أمن الدولة وعدم محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري.

ثالثا : تسليم سلطة الدولة لحكومة ثورية مؤقتة ممثلة للقوي الوطنية الديمقراطية ومعيارها بالحد الأدنى اليوم هو القوي التي رفضت وقاومت السياسات الداخلية والخارجية للنظام في ميادينها الأساسية وليس في أسلوب الحكم الفردي الاستبدادي فقط ، لتقوم بالمهام التالية :

1 –
رفع أي قيود علي ممارسة الحريات الديمقراطية لإتاحة طرح الخطابات والبرامج السياسية وتعرف الشعب عليها ومعرفة قادتها ، وتوسيع وتجذير مشاركته في النضال لتحقيقها ، ولتمكين فئات الشعب المختلفة من تشكيل المنظمات المعبرة والمدافعة عن مصالحها .

2 -
مواجهه القضايا الاقتصادية الاجتماعية الملحة في حياة الشعب وجماهيره الكادحة خاصة البطالة والأجور وارتفاع الأسعار .

3 –
استرداد أموال وأراضي الدولة التي استولي عليها البعض بالفساد والمحسوبية وإعادة تأميم بعض الشركات الكبرى والصناعات الأساسية التي سبق خصخصتها والتي لا مبرر اقتصادي أو سياسي عقلاني لتحويلها لقطاع خاص مصري أو أجنبي .

4-
إجراء انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد بعد سنة علي الأقل من تاريخ إزالة كل القيود علي الحريات.

5 –
انطلاق كافة مهمات الفترة الانتقالية وخاصة وضع الدستور الجديد من هدف الثورة الرئيسي وهو: إقامة جمهورية ديمقراطية برلمانية تستكمل أسس الدولة المدنية بفصل الدين عن الدولة ، وتستعيد وتعزز الاستقلال والكرامة الوطنيين ، وتحرر اقتصادنا من التبعية للامبريالية العالمية التي كرست تخلفه وأفقرت شعبنا، وتبني اقتصاد حديث متطور معتمد أساسا علي الذات ، وتوفر حياة كريمة للشعب.

20
فبراير 2011 حركة الديمقراطية الشعبية المصرية
 

No comments:

Post a Comment