Friday, March 9, 2012

أسس اللينينية - الجزء الثالث - "جوزيف ستالين"

أسس اللينينية - الجزء الثالث - جوزيف ستالين

أسس اللينينية
إلى فوج لينين، أهدي هذه الصفحات 
"جوزيف ستالين"

- 8 -
الحزب
في العهد الذي سبق المرحلة الثورية، عهد التطور السلمي نسبياً، أيام كانت أحزاب الأممية الثانية هي القوة السائدة في حركة العمال، وكانت الأشكال البرلمانية في النضال معتبرة كأنها الأشكال الرئيسية – في تلك الظروف، لم تكن للحزب، ولا كان من الممكن أن تكون له الأهمية الجدية والفاصلة التي اكتسبها فيما بعد، خلال المعارك الثورية المكشوفة. يقول كاوتسكي، في دفاعه عن الأممية الثانية ضد الهجمات التي تعرضت لها، أن أحزاب الأممية الثانية هي أداة سلم، لا أداة حرب، وأنها، لهذا السبب عينه، لم تستطع القيام بأي شيء جدي خلال الحرب، أبان مرحلة الأعمال الثورية التي قامت بها البروليتاريا. وهذا صحيح تماماً. ولكن ما معنى هذا؟ معناه أن أحزاب الأممية الثانية ليست صالحة لنضال البروليتاريا الثوري، ولا هي أحزاب كفاح للبروليتاريا، تقود العمال إلى الاستيلاء على الحكم، بل هي جهاز انتخابي، مكيف وفقاً للانتخابات البرلمانية والنضال البرلماني. وهذا ما يفسر، على الوجه الصحيح، الواقع التالي، وهو أن المنظمة السياسية الأساسية للبروليتاريا، في المرحلة التي ساد فيها انتهازيو الأممية الثانية، لم تكن الحزب بل الكتلة البرلمانية. فمن المعروف أن الحزب، في ذلك العهد، كان ذيلاً للكتلة البرلمانية وعنصراً معداً لخدمتها. وغني عن البيان، في أحوال كهذه، أن مجرد البحث في تهيئة البروليتاريا للثورة، لم يكن له مجال، مع وجود مثل هذا الحزب على رأسها.
غير أن الوضع تبدل من أساسه، مع قدوم المرحلة الجديدة. والمرحلة الجديدة هي مرحلة الاصطدامات المكشوفة بين الطبقات، مرحلة الأعمال الثورية للبروليتاريا، مرحلة الثورية البروليتارية واعداد القوى بصورة مباشرة للقضاء على الاستعمار، ولاستيلاء البروليتاريا على الحكم. وتضع هذه المرحلة مهمات جديدة أمام البروليتاريا، هي: اعادة تنظيم كل عمل الحزب وفق أسلوب جديد، ثوري، لتثقيف العمال بروح النضال الثوري في سبيل الحكم، اعداد القوى الاحتياطية وحشدها؛ التحالف مع عمال الأقطار المجاورة؛ اقامة روابط متينة مع حركة التحرر في المستعمرات والبلدان التابعة، الخ.. الخ.. فالاعتقاد بأن هذه المهمات الجديدة يمكن انجازها بقوى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية القديمة التي تربت في الظروف السلمية للحياة البرلمانية، هو استسلام ليأس لا قرار له، وإخلاد لهزيمة محتومة. والبقاء، بمثل هذه المهمات على الأكتاف، تحت قيادة الأحزاب القديمة، معناه البقاء في حالة تجرد تام من كل سلاح. ولا حاجة إلى القول أن البروليتاريا لم تكن تستطيع القبول بمثل هذه الحالة.
ومن هنا كانت الضرورة لإيجاد حزب جديد، حزب مكافح، حزب ثوري، لديه الشجاعة الكافية لقيادة البروليتاريين إلى النضال في سبيل الحكم، والتجارب الكافية للاهتداء إلى طريقه وسط أوضاع ثورية كثيرة التعقيد، ولديه المرونة الكافية لاجتناب الاصطدام بالصخور القائمة، من كل نوع، في طريقه إلى هدفه.
بدون حزب كهذا، لا يمكن التفكير بالقضاء على الاستعمار، والوصول إلى ديكتاتورية البروليتاريا.
إن هذا الحزب الجديد، هو حزب اللينينية. فما هي خصائص هذا الحزب الجديد؟
1 –
الحزب من حيث هو فصيلة الطليعة من الطبقة العاملة
يجب أن يكون الحزب، قبل كل شيء، فصيلة الطليعة من الطبقة العاملة. يجب أن يستوعب الحزب من الطبقة العاملة، أحسن عناصرها جميعاً، وتجارب هذه العناصر، وروحها الثورية، وتفانيها المتناهي لقضية البروليتاريا. ولكن، لأجل أن يكون الحزب فصيلة طليعية حقاً، يجب أن يكون مسلحاً بالنظرية الثورية، بمعرفة قوانين الحركة، بمعرفة قوانين الثورة. وإلا فلا يكون في طاقته قيادة نضال البروليتاريا، ولا اجتذابها إلى السير وراءه. إن الحزب لا يستطيع أن يكون حزباً حقيقياً، إذا اقتصر همه على تسجيل ما يشعر به ويفكر به جمهور الطبقة العاملة، وإذا استسلم للسير في ذيل الحركة العفوية، ولم يستطع التغلب على ما في الحركة العفوية من اللامبالاة السياسية والجمود، وإذا لم يستطع الارتفاع فوق مصالح البروليتاريا الوقتية، ولم يستطع رفع الجماهير إلى المستوى الذي تدرك فيه المصالح الطبقية للبروليتاريا. ينبغي أن يكون الحزب على رأس الطبقة العاملة، وأن ينظر إلى ابعد مما تنظر الطبقة العاملة، وعليه أن يقود البروليتاريا، لا أن يخلد إلى السير في ذيل الحركة العفوية. إن أحزاب الأممية الثانية التي تعظ بالاتباعية (34)، إنما هي عميلة للسياسة البرجوازية التي تقضي بجعل البروليتاريا أداة في يد البرجوازية. ولا يستطيع أن يصرف الطبقة العاملة عن طريق الترادنيونية ، ويحولها إلى قوة سياسية مستقلة، سوى حزب ينظر إلى نفسه كفصيلة الطليعة للبروليتاريا، ويستطيع رفع الجماهير إلى المستوى الذي تدرك فيه المصالح الطبقية للبروليتاريا.
إن الحزب هو القائد السياسي للطبقة العاملة.
لقد تحدثت، فيما تقدم، عن صعوبات نضال الطبقة العاملة، وعن ظروف هذا النضال المعقدة، وتحدثت عن الستراتيجية والتكتيك، وعن القوى الاحتياطية والمناورات، وعن الهجوم والتراجع. إن هذه الظروف معقدة كظروف الحرب، إن لم تكن أشد تعقيداً. فمن ذا الذي يستطيع الاهتداء إلى سواء السبيل وسط هذه الظروف؟ ومن إذن يستطيع أن يعطي ملايين البروليتاريين توجيهاً صحيحاً؟ ما من جيش يخوض حرباً، في وسعه الاستغناء عن هيئة أركان مجربة، إذا كان لا يريد نذر نفسه للهزيمة. أفليس واضحاً، بالأحرى، أن البروليتاريا لا يمكنها الاستغناء عن أركان حرب من هذا النوع إذا كانت لا تريد أن تقدم نفسها لقمة سائغة لأعدائها الألداء؟ ولكن أين يمكن وجود هذه الأركان؟ إن حزب البروليتاريا الثوري هو الوحيد الذي يمكن أن يكون هذه الأركان. فالطبقة العاملة، بدون حزب ثوري، هي جيش بدون أركان حرب.
إن الحزب هو أركان الحرب لكفاح البروليتاريا.
ولكن لا ينبغي أن يكون الحزب فصيلة الطليعة وحسب. بل ينبغي أن يكون، في الوقت نفسه، فصيلة من الطبقة، جزءاً من الطبقة، مرتبطاً بها بجميع جذور كيانه، أوثق ارتباط. إن الفارق بين فصيلة الطليعة وبقية جمهور الطبقة العاملة، بين أعضاء الحزب وغير الحزبيين، لا يمكن أن يزول مادامت الطبقات لم تزل، ومادامت البروليتاريا تكمل صفوفها باستمرار بعناصر متحدرة من الطبقات الأخرى، وما دامت الطبقة العاملة لا تستطيع بمجموعها الارتفاع إلى مستوى الطليعة. غير أن الحزب لا يظل هو الحزب، إذا انقلب هذا الفارق إلى قطيعة، وإذا انطوى الحزب على نفسه وانقطع عن الجماهير غير الحزبية. ولا يستطيع الحزب قيادة الطبقة، إذا لم يكن متصلاً بالجماهير غير الحزبية، إذا لم يكن بينه وبين الجماهير اللاحزبية تماسّ، وإذا لم تقبل هذه الجماهير قيادته، وإذا لم تكن له عندها مكانة معنوية وسياسية.
إن مائتي ألف منتسب جديد من العمال، قلبوا مؤخراً في حزبنا. ومما تجدر الإشارة إليه أن انتساب هؤلاء الناس كلهم إلى الحزب بدافع من أنفسهم، بمقدار ما كان يدافع من سواد اللاحزبيين الذين أرسلوهم إلى الحزب. فإن سواد اللاحزبيين قد ساهموا بصورة فعلية في قبول الأعضاء الجدد، الذين ما كانوا ليقبلوا في الحزب، لولا موافقة سود اللاحزبيين. ويدل هذا الحادث على أن كل جمهور العمال غير الحزبيين يعتقدون أن حزبنا هو حزب لهم، حزب قريب منهم وعزيز عليهم، ولهم في تطوره وتوطيده مصلحة حيوية، وفي يدي قيادته يضعون مصيرهم بملء اختيارهم. ونكاد نكون في غير حاجة إلى البرهان على أن الحزب، ما كان في وسعه أن يصبح القوة الفاصلة لطبقته، لولا هذه الصلات المعنوية التي لا تقع تحت اللمس، والتي تربط الحزب بجماهير الفلاحين اللاحزبيين.
إن الحزب هو جزء لا ينفصل من الطبقة العاملة.
يقول لينين:
نحن حزب الطبقة، ولذلك فالطبقة كلها على وجه التقريب (أما في وقت الحرب، أي في عهد الحرب الأهلية، فالطبقة كلها على الإطلاق) يجب أن تعمل تحت قيادة حزبنا وأن تتراص حوله أكثر ما يمكن. أما أن تصبح الطبقة كلها تقريباً، أو الطبقة بأسرها يوماً ما، وفي عهد الرأسمالية، في حالة تستطيع معها أن ترتفع حتى تبلغ درجة من الوعي والنشاط، مثل فصيلتها الطليعية، أي مثل حزبها الاشتراكي الديمقراطي، فإن التفكير في مثل ذلك هو ضرب من المانيلوفيه(35) وشكل من السير في ذيل الحركة. وأن المنظمة النقابية نفسها (وهي منظمة ابتدائية أكثر من الحزب، وأقرب تناولاً إلى أدراك الجماعات غير المتقدمة) لا تستطيع في عهد الرأسمالية أن تشمل الطبقة العاملة كلها تقريباً، أو الطبقة العاملة بأسرها تماماً. وليس هناك اشتراكي ديمقراطي واحد سليم التفكير، داخله الشك يوماً في ذلك. فنحن إنما نخدع أنفسنا ونغمض عيوننا عن أعظم مهماتنا وواجباتنا، بل إننا نضيق نطاق هذه المهمات والواجبات، إذا نسينا الفرق بين فصيلة الطليعة وبين كل الجماهير التي تلتف حولها، وإذا نسينا أن على فصيلة الطليعة واجباً دائماً هو رفع جماعات أوسع فأوسع إلى هذا المستوى المتقدم الراقي . (لينين خطوة إلى أمام، خطوتان إلى وراء ، المجلد 6، الصفحة 205 – 206).

2 –
الحزب من حيث هو فصيلة منظمة من الطبقة العاملة
ليس الحزب فصيلة الطليعة من الطبقة العاملة وحسب. بل عليه، إذا أراد فعلاً قيادة الطبقة العاملة، أن يكون أيضاً الفصيلة المنظمة من طبقته. إن مهمات الحزب، في ظروف الرأسمالية، عظيمة الأتساع والتنوع. فعليه أن يقود نضال البروليتاريا في ظروف التطور الداخلي والخارجي البالغة أقصى درجات الصعوبة. وعليه أن يسير بالبروليتاريا إلى الهجوم حين تفرض الحالة الهجوم، وعليه أن يجنب البروليتاريا ضربات عدوها البطّاش، حين تفرض الحالة التراجع، وأن يدخل في أذهان سواد العمال غير الحزبيين وغير المنظمين الذين لا يحصى لهم عدد، روح الانضباط والنظام في النضال، وأن يلقنهم روح التنظيم والصلابة. ولكن لن يستطيع الحزب تأدية هذه المهمات، إلا إذا كان هو نفسه فصيلة منظمة من البروليتاريا. وبدون هذه الشروط لا يمكن حتى البحث في مسألة قيادة الحزب الحقيقية للجماهير الغفيرة من البروليتاريا.
إن الحزب هو الفصيلة المنظمة من الطبقة العاملة.
إن الفكرة القائلة بأن الحزب هو كل منظم، قد حددت في الصيغة المشهورة التي أعطاها لينين في النقطة الأولى من نظام حزبنا الداخلي، تلك الصيغة التي تعتبر أن الحزب هو مجموعة منظماته، وأن أعضاءه هم أعضاء إحدى منظمات الحزب. أما المنشفيك الذين أعلنوا، منذ عام 1903 معارضتهم لهذه الصيغة، فكانوا يقترحون استبدالها بنظام من القبول الذاتي في الحزب، نظام يوسع صفة عضو الحزب، حتى تشمل كل أستاذ مدرسة أو تلميذ وكل محبذ أو مضرب يؤيد الحزب بشكل من الأشكال، دون أن يكون منضماً أو راغباً في الانضمام إلى أية منظمة من منظماته. ونكاد نكون في غير حاجة إلى التدليل على أن هذا النظام الفريد، لو تأصل في حزبنا، لأدى حتماً إلى ملء الحزب، حتى الحد الأقصى، بأساتذة وتلاميذ، وتحويله إلى تشكيلة غامضة عديمة الشكل، عديمة التنظيم، ضائعة في خضم من المحبذين، تمحو كل خط فاصل بين الحزب والطبقة، وتقلب رأساً على عقب مهمة الحزب التي هي رفع الجماهير غير المنظمة إلى مستوى فصيلة الطليعة. وغني عن القول أن حزبنا، لو اخذ بهذا النظام الانتهازي، لما استطاع أن يقوم بدوره كنواة منظمة للطبقة العاملة في ثورتنا.
يقول لينين:
إن وجهة نظر الرفيق مارتوف هي أن تظل حدود الحزب بدون تعيين على الإطلاق، إذ أن كل مضرب بإمكانه أن يعلن نفسه عضواً في الحزب . فما هي الفائدة من هذا الإبهام؟ إنها نشر التسمية على نطاق واسع. ووجه الضرر في ذلك هو أن هذا الإبهام ينطوي على فكرة هدم التنظيم، وخلق الالتباس بين الطبقة والحزب . (المصدر نفسه، الصفحة 211).
ولكن الحزب ليس مجموع منظماته وحسب، بل هو في الوقت نفسه النظام الأوحد لهذه المنظمات، هو اتحادها الشكلي في كل قوامه هيئات قيادية عليا ودنيا، وخضوع الأقلية للأكثرية، على أساس قرارات عملية إلزامية لجميع أعضاء الحزب. وبدون هذه الشروط لا يستطيع الحزب أن يؤلف كلا موحداً ومنظماً، في وسعه أن يؤمن، لنضال الطبقة العاملة، قيادة مستمرة ومنظمة.
يقول لينين:
قديماً، لم يكن حزبنا، من حيث الشكل، كلاً منظماً، بل كان فقط مجموع فرق خاصة، ولذلك لم يكن من الممكن أن يكون بين هذا الفرق من صلة سوى العمل الفكري. أما الآن، فقد أصبحنا حزباً منظماً، وهذا يعني انشاء سلطة، وجعل هيئة الأفكار هيبة للسلطة. وتأمين تبعية الهيئات الدنيا في الحزب للهيئات العليا . (المرجع نفسه، ص 291).
إن مبدأ خضوع الأقلية للأكثرية، مبدأ قيادة عمل الحزب من قبل هيئة مركزية، يثير غالباً هجمات من العناصر غير الثابتة، واتهامات بالبيروقراطية و التمسك بالشكليات الخ... ولا حاجة إلى البرهان على أن من المستحيل القيام بعمل الحزب بصورة مستمرة منظمة من حيث هو كل موحد، وقيادة نضال الطبقة العاملة، بدون تطبيق هذه المبادئ اللينينية، في ميدان التنظيم هي تطبيق هذه المبادئ بمنتهى الدقة. إن لينين ينعت النضال ضد هذه المبادىء بالنهيلية الروسية(36) و بالفوضوية المتعالية المتكبرة التي تستحق السخرية والنبذ.
وإليكم ما يقوله لينين عن هذه العناصر غير الثابتة، في كتابه: خطوة إلى الأمام :
إن هذه الفوضوية المتعالية المتكبرة هي، بصورة خاصة، من صفات النهيليستي الروسي. فأن منظمة الحزب تتراءى له كـ فبركة مخيفة، أما خضوع الجزء للكل والأقلية للأكثرية فهو في نظره ضرب من العبودية ، أما تقسيم العمل، تحت قيادة مركز واحد، فأمر يدفعه إلى إرسال صيحات مبكيات مضحكات، احتجاجاً على تحويل الناس إلى دواليب ونوابض(37) .. وما أن تذكر أمامه قوانين تنظيم الحزب حتى ترتسم على وجهه تكشيرة احتقار، ويتفضل بملاحظة كلها ازدراء واستخفاف مؤداها أن من الممكن الاستغناء عن هذه القوانين بأجمعها...
ومن الواضح، فيما أعتقد أن هذه الاحتجاجات ضد البيروقراطية الشهيرة هدفها الوحيد إخفاء الاستياء من كيفية تركيب الهيئات المركزية، فهي ليست سوى ورقة التين... فأنت بيروقراطي لأنك عينت من قبل المؤتمر، لا وفقاً لإرادتي، بل ضد إرادتي، وأنت متمسك بالشكليات لأنك تستند إلى قرارات شكلية من المؤتمر، لا إلى موافقتي، وأنت تتصرف تصرفاً ميكانيكاً فظاً. لأنك تعتمد على أكثرية مؤتمر الحزب الميكانيكية ، ولا تأخذ بعين الاعتبار رغبتي في أن أعين عن طريق الضم، وأنت أوتوقراطي لأنك لا تريد تسليم السلطة إلى كتلة الأصحاب الطيبين القدماء . (38) (لينين – المؤلفات الكاملة، الجزء 6

وأنت تتصرف تصرفاً ميكانيكاً فظاً. لأنك تعتمد على أكثرية مؤتمر الحزب الميكانيكية ، ولا تأخذ بعين الاعتبار رغبتي في أن أعين عن طريق الضم، وأنت أوتوقراطي لأنك لا تريد تسليم السلطة إلى كتلة الأصحاب الطيبين القدماء . (38) (لينين – المؤلفات الكاملة، الجزء 6 ص 310 و 287).

3 –
الحزب من حيث هو أعلى أشكال تنظيم البروليتاريا الطبقي
الحزب هو الفصيلة المنظمة من الطبقة العاملة. ولكنه ليس المنظمة الوحيدة للطبقة العاملة. فللبروليتاريا أيضاً سلسلة من المنظمات الأخرى التي لا تستطيع البروليتاريا بدونها أن تناضل بنجاح ضد الرأسمال، وهي: النقابات، التعاونيات، منظمات المعمل، الكتل البرلمانية، اتحاد النساء غير الحزبيات، الصحافة، المنظمات الثقافية والتعليمية، اتحادات الشباب، المنظمات الثورية للكفاح (أثناء الأعمال الثورية المكشوفة)، المجالس السوفياتية للنواب كشكل من أشكال تنظيم الدولة (إذا كانت البروليتاريا في الحكم)، الخ.. أن الأكثرية الكبرى من هذه المنظمات هي منظمات غير حزبية، وبعضها فقط مرتبط بالحزب مباشرة، أو متفرع عنه. وجميع هذه المنظمات هي، في بعض الأحوال، ضرورية جداً للطبقة العاملة، لأن من المستحيل بدونها، توطيد مواقع البروليتاريا الطبقية في مختلف ميادين النضال، وتقوية مراسها في الكفاح، من حيث هي قوة مدعوة إلى تبديل النظام البرجوازي بالنظام الاشتراكي. ولكن كيف السبيل إلى تحقيق وحدة القيادة مع وجود هذا العدد الكبير من المنظمات؟ وماذا يضمن أن لا يؤدي تعددها إلى عدم الانسجام في القيادة؟ قد يقول قائل: إن هذه المنظمات تقوم كل منها بأعمالها، في نطاقها الخاص، فلا يمكن، إذن، أن تزعج أحداها الأخرى. وهذا صحيح طبعاً. ولكن الصحيح أيضاً هو أن من واجب هذه المنظمات جميعاً أن توجه عملها في اتجاه واحد، لأنها تخدم طبقة واحدة هي طبقة البروليتاريين. وهنا يبرز هذا السؤال: ومن يعين هذه الخطة، وهذا الاتجاه العام الذي ينبغي على جميع المنظمات إتباعه في عملها؟ ومن هي المنظمة المركزية التي بفضل ما عندها من التجارب اللازمة، تستطيع لا وضع الخطة العامة فقط، بل في وسعها أيضاً، بفضل ما لها من هيبة كافية لهذا الغرض، أن تدفع جميع هذه المنظمات إلى تطبيق هذه الخطة، فتحقق بذلك وحدة القيادة، وتقضي على احتمال ما يمكن أن يحدث من عثرات؟
هذه المنظمة هي حزب البروليتاريا.
فلدى الحزب تتوفر جميع المعطيات الضرورية لذلك، لأن الحزب هو، أولاً مركز التجمع لأحسن عناصر الطبقة العاملة، هذه العناصر المرتبطة مباشرة بالمنظمات اللاحزبية للبروليتاريا، وهي في الكثير الغالب، تقود هذه المنظمات، وثانياً بما أن الحزب هو مركز التجمع لنخبة الطبقة العاملة، فهو لذلك خير مدرسة لتكوين زعماء للطبقة العاملة قادرين أن يقودوا جميع أشكال التنظيم لطبقتهم. وبما أن الحزب، ثالثاً هو خير مدرسة لتكوين زعماء للطبقة العاملة، فهو بفضل ما عنده من تجربة وما له من نفوذ، المنظمة الوحيدة التي تستطيع أن تمركز في يديها قيادة نضال البروليتاريا، وبذلك تجعل من مختلف المنظمات اللاحزبية للطبقة العاملة، أجهزة مساعدة وأسلاكاً موصلة تربط الحزب بالطبقة.
إن الحزب هو أعلى شكل لتنظيم البروليتاريا الطبقي.
ومن المؤكد أن هذا لا يعني أبداً أن المنظمات غير الحزبية، كالنقابات والتعاونيات، الخ... يجب أن تكون خاضعة شكلياً لقيادة الحزب المنتمين إلى هذه المنظمات والذين يتمتعون فيها بنفوذ لا جدال فيه، أن يستخدموا جميع طرق الأقناع، حتى تقترب المنظمات غير الحزبية، في عملها من حزب البروليتاريا، وتقبل قيادته السياسية بملء اختيارها.
لهذا يقول لينين أن الحزب هو الشكل الأعلى لاتحاد البروليتاريين الطبقي ، ويجب أن تشمل قيادته السياسية جميع أشكال التنظيم الأخرى للبروليتاريا. (لينين – مرض الطفولة في الشيوعية الجزء 25 من المؤلفات الكاملة – ص 194).
ولذلك، فالنظرية الانتهازية عن استقلال المنظمات اللاحزبية و حيادها تلك النظرية التي تؤدي إلى تكاثر عدد البرلمانيين المستقلين والكتاب غير المرتبطين بالحزب، والنقابيين الضيقي الأفق، ورجال التعاونيات المتبرجزين، تتنافى على خط مستقيم، مع نظرية اللينينية وتطبيقها العملي.

4 –
الحزب من حيث هو أداة ديكتاتورية البروليتاريا
إن الحزب هو أعلى شكل تنظيمي للبروليتاريا. فهو العامل القيادي الأساسي في داخل طبقة البروليتاريين، وبين منظمات هذه الطبقة. ولكن لا ينتج عن ذلك قطعاً أن الحزب غاية لذاته، وقوة تكفي نفسها بنفسها. فليس الحزب أعلى شكل لاتحاد البروليتاريين الطبقي وحسب، بل هو، في الوقت نفسه، أداة في يد البروليتاريا لأجل الوصول إلى الديكتاتورية، قبل أن يتم الوصول إليها، ولأجل توطيد الديكتاتورية وتوسيع مداها، بعد الوصول إليها. وما كان الحزب ليستطيع أن يرفع أهميته إلى هذه الدرجة ويفوق جميع أشكال التنظيم الأخرى للبروليتاريا، لو لم تجابه البروليتاريا قضية الحكم ولو لم تتطلب الأحوال التي خلقها الاستعمار، والحروب الحتمية، ووجود الأزمة، تركيز جميع قوى البروليتاريا على نقطة واحدة، وجمع كل خيوط الحركة الثورية في مكان واحد، لقلب حكم البرجوازية والوصول إلى ديكتاتورية البروليتاريا. إن الحزب ضروري للبروليتاريا، قبل كل شيء، كهيئة أركان للكفاح لا غنى عنها للاستيلاء الظافر على الحكم. ونكاد لا نحتاج إلى التدليل على أنه لولا وجود حزب قادر على حشد المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا حوله، وعلى تركيز قيادة مجموع الحركة بيديه، في سياق النضال، لما استطاعت البروليتاريا تحقيق ديكتاتوريتها الثورية في روسيا.
ولكن الحزب ليس ضرورياً للبروليتاريا للاستيلاء على الحكم وحسب، بل هو أشد ضرورة أيضاً، للاحتفاظ بالديكتاتورية وتوطيدها، وتوسيع مداها، لأجل تأمين انتصار الاشتراكية التام.
يقول لينين:
من المؤكد أن جميع الناس، على وجه التقريب، يرون اليوم، أن البلاشفة ما كانوا ليستطيعوا البقاء في الحكم، لا أقول سنتين ونصف سنة، بل شهرين ونصف شهر، لولا الانضباط الصارم، لولا الانضباط الحديدي حقاً، في حزبنا، ولولا التأييد الكلي المتين الذي بذل للحزب سواد الطبقة العاملة، أي كل ما فيها من مفكر وشريف ومتفان إلى حد إنكار الذات، وكل ما فيها من ذي نفوذ ومن كفؤ لقيادة الفئات المتأخرة وراءه، واجتذابها معه . (المرجع نفسه ـ ص 173).
ولكن ما معنى المحافظة على الديكتاتورية، و توسيع مداها ؟ ذلك معناه تلقين ملايين البروليتاريين روح النظام والتنظيم، معناه خلق التماسك بين الجماهير البروليتارية وإقامة حاجز يقيها التأثير الهدام الذي يبثه العنصر البرجوازي الصغير، والعادات البرجوازية الصغيرة، ذلك معناه تقوية عمل البروليتاريين التنظيمي في سبيل إعادة تثقيف الفئات البرجوازية الصغيرة وتغييرها، معناه مساعدة الجماهير البروليتارية على القيام بتثقيف نفسها حتى تصبح قوة قادرة على محو الطبقات وتهيئة الشروط الضرورية لتنظيم الإنتاج الاشتراكي. وهذا كله غير ممكن تحقيقه بدون حزب قوي بتماسكه ونظامه.
يقول لينين:
إن ديكتاتورية البروليتاريا هي نضال عنيد، دام وغير دام، عنيف سلمي، عسكري واقتصادي، تربوي وأداري، ضد قوى المجتمع القديم وتقاليده. إن قوة العادة عند الملايين وعشرات الملايين من الناس هي أفظع قوة. فبدون حزب حديدي متمرس بالنضال، ومتمتع بثقة كل من هو شريف في الطبقة المعنية، حزب يعرف أن يلاحظ حالة الجماهير الفكرية وأن يؤثر في حالتها، تستحيل قيادة هذا النضال بنجاح . (المرجع نفسه، ص 190).
إن البروليتاريا بحاجة إلى الحزب لاجل الاستيلاء على ديكتاتوريتها والمحافظة عليها، فالحزب هو أداة ديكتاتورية البروليتاريا.
فينتج إذن، أن زوال الطبقات وتلاشي ديكتاتورية البروليتاريا، ينبغي أن يجر معهما أيضاً تلاشي الحزب.

5 –
الحزب من حيث هو وحدة في الإرادة لا تقبل وجود التكتلات الانقسامية
إن الفوز بديكتاتورية البروليتاريا والمحافظة عليها أمر غير ممكن، بدون حزب قوي بتجانسه وبانضباطه الحديدي. ولكن الانضباط الحديدي في الحزب لا يمكن تصوره بدون وحدة الإرادة، وبدون وحدة العمل التامة والمطلقة بين جميع أعضاء الحزب. على أن هذا لا يعني طبعاً انتفاء وقوع نضال في الآراء في داخل الحزب، بل على العكس من ذلك، فإن الانضباط الحديدي لا ينفي، بل يفترض مقدماً، وجود الانتقاد ونضال الآراء في داخل الحزب، وليس يعني ذلك، بالأحرى، أن الانضباط ينبغي أن يكون أعمى بل على العكس، فالانضباط الحديدي لا ينفي بل يفترض مقدماً الخضوع الواعي القائم على ملء الاختيار الحر، لأن الانضباط الواعي هو الذي يمكن أن يكون حقاً نظاماً حديدياً. ولكن عند انتهاء نضال الآراء، واستنفاد الانتقاد، واتخاذ القرار، تكون وحدة الإرادة ووحدة العمل بين جميع أعضاء الحزب، الشرط الذي لا غنى عنه، والذي بدونه لا يمكن تصور حزب موحد، ولا انضباط حديدي في الحزب.
يقول لينين:
في هذا العهد من الحرب الأهلية الحادة، لن يتمكن الحزب الشيوعي من أداء واجبه إلا إذا كان منظماً على أقصى درجات المركزية، ويسوده انضباط حديدي، يقرب من الانضباط العسكري، وإلا إذا كان مركز الحزب هيئة تتمتع بهيبة رفيعة، وذات سلطات واسعة، وحائزة على ثقة أعضاء الحزب العامة . (شروط قبول الأحزاب في الأممية الشيوعية، المؤلفات الكاملة، الجزء 25 – صفحة 282 – 283).
هذا ما ينبغي أن يكون عليه الانضباط في الحزب في ظروف النضال قبل الاستيلاء على الديكتاتورية.
والشيء نفسه ينبغي أن يقال، ولكن على نطاق أوسع، عن الانضباط في الحزب، بعد الاستيلاء على الديكتاتورية.
يقول لينين:
إن من يضعف لو قليلا جداً، الانضباط الحديدي في حزب البروليتاريا (خصوصاً في عهد ديكتاتوريتها) يساعد البرجوازية، في الواقع، ضد البروليتاريا . (مرض الطفولة، المؤلفات الكاملة، الجزء 25، صفحة 190).
فينتج عن ذلك، إذن، أن وجود تكتلات انقسامية في الحزب لا يتفق مع وحدة الحزب، ومع الانضباط الحديدي فيه. ولا حاجة إلى التدليل على أن وجود التكتلات يجر معه إلى تأليف عدة مراكز، ووجود عدة مراكز معناه انعدام مركز واحد مشترك في الحزب، معناه انقسام الإرادة الواحدة وتراخي الانضباط وتفككه، وتراخي الديكتاتورية وتفككها.
إن أحزاب الأممية الثانية التي تحارب ديكتاتورية البروليتاريا ولا تريد أن تقود البروليتاريين إلى الاستيلاء على الحكم، يمكنها طبعاً أن تسمح لنفسها بمثل هذه الليبرالية من حرية وجود التكتلات الانقسامية، لأن هذه الأحزاب لا تحتاج، بوجه من الوجوه، إلى انضباط حديدي. ولكن أحزاب الأممية الشيوعية، وهي التي تنظم عملها على أساس المهمة التالية، – مهمة الفوز بدكتاتورية البروليتاريا وتوطيدها – لا يمكنها أن تقبل لا بالليبرالية ولا بحرية التكتلات الانقسامية.
إن الحزب هو وحدة في الإرادة تنفي كل عمل انقسامي وكل تجزئة للسلطة في الحزب.
لذلك يبين لينين خطر العمل الانقسامي من ناحية وحدة الحزب وتحقيق وحدة الإرادة لدى طليعة البروليتاريا، هذه الوحدة التي هي شرط أساسي لنجاح ديكتاتورية البروليتاريا ، وهو ما جرى تثبيته في قرار خاص، وافق عليه المؤتمر العاشر لحزبنا، تحت عنوان حول عنوان وحدة الحزب .
ولذلك يطالب لينين بمحو كل عمل انقسامي محواً تاماً ، و حل جميع الكتل فوراً، وبلا استثناء، مهما يكن البرنامج الذي تألفت على أساسه تلك الكتل ، تحت طائلة الطرد من الحزب، بصورة مؤكدة مباشرة . (قرار حول وحدة الحزب ).

6 –
الحزب يقوى بتطهير نفسه من العناصر الانتهازية
إن ينبوع العمل الانقسامي(39) في الحزب، هو العناصر الانتهازية فيه. فالبروليتاريا ليست طبقة مقفلة، بل تتدفق إليها، بغير انقطاع، عناصر أصلها من الفلاحين، والبرجوازية الصغيرة، وعناصر من المثقفين الذين استحالوا، بفعل تطور الرأسمالية، إلى بروليتاريين. وفي نفس الوقت، تجري عملية تفسخ في الفئات العليا من البروليتاريا، ولاسيما بين القادة النقابيين والبرلمانيين الذين تنفق عليهم البرجوازية من الربح الزائد الذي تبتزه من المستعمرات.
يقول لينين:
إن هذه الفئة من العمال المتبرجزين، أو من أريستوقراطية العمال ، الذين هم برجوازيون صغار تماماً، من حيث طراز معيشتهم، ومن حيث نسبة أجورهم ومن حيث كل مفهومهم للعالم، لأن هذه الفئة هي السند الرئيسي للأممية الثانية، وهي في أيامنا هذه، السند الاجتماعي الرئيسي (غير العسكري) للبرجوازية. ذلك لأنهم عملاء حقيقيون للبرجوازية في حركة العمال، ووكلاء من بين العمال لطبقة الرأسماليين، ودعاة حقيقيون للفكرة الإصلاحية و الشوفينية (40). (الاستعمار، المجلد 19، ص 77).
إن كل هذه الجماعات البرجوازية الصغيرة تتسرب إلى الحزب، بهذه الطريقة أو بتلك، حاملة إليه روح التردد والانتهازية، روح إفساد المعنويات وعدم اليقين. هؤلاء هم الذين يؤلفون، بصورة رئيسية، منبع العمل الانقسامي والتفكك، منبع تخريب الحزب وتفكيك تنظيمه وهدم الحزب من الداخل. إن القيام بالحرب ضد الاستعمار، مع وجود مثل هؤلاء الحلفاء في المؤخرة، معناه التعرض إلى النار من جهتين: من الجبهة ومن المؤخرة. ولذلك، فالنضال بلا رحمة ضد مثل هذه العناصر وطردها من الحزب هما الشرط الأولي للنضال الناجح ضد الاستعمار.
إن النظرية القائلة بأن من الممكن التغلب على العناصر الانتهازية، عن طريق النضال الفكري داخل الحزب، النظرية القائلة بأن من الواجب التغلب على هذه العناصر في نطاق حزب واحد، هي نظرية عفنة وخطرة، تهدد الحزب بالشلل، وبالوقوع في حالة مرض مزمن، أنها تهدد بجعل الحزب مرتعاً للانتهازية، وبترك البروليتاريا بدون حزب ثوري، وبحرمانها سلاحها الرئيسي في النضال ضد الاستعمار. إن حزبنا ما كان ليستطيع أن يسير على الطريق الكبرى، وأن يستولي على الحكم، وأن ينظم ديكتاتورية البروليتاريا، وأن يخرج ظافراً من الحرب الأهلية، لو كان في صفوفه أمثال مارتوف ودان، وبوتريسوف واكسيلرود(41) . وإذا كان حزبنا قد نجح في تكوين وحدته الداخلية وتكوين التماسك الذي يسود صفوفه، بصورة لم يسبق لها مثيل، فذلك يعود، قبل كل شيء، إلى أنه استطاع أن يطهر نفسه، في الوقت المناسب، من دنس الانتهازية، ولأنه استطاع أن يطرد من صفوفه دعاة التصفية(42) والمنشفيك. إن الطريق إلى تطوير الأحزاب البروليتارية وتقويتها تمر عبر تطهير هذه الأحزاب من الانتهازيين والإصلاحيين، ومن الاشتراكيين الاستعماريين والاشتراكيين الشوفينيين، ومن الاشتراكيين الوطنيين والاشتراكيين السلميين.
إن الحزب يقوى بتطهير نفسه من العناصر الانتهازية.
يقول لينين:
إذا كان صفوفنا إصلاحيون ومنشفيك، فلا يمكن الانتصار في الثورة البروليتارية، ولا يمكن صونها. هذا مبدأ بديهي. وقد أكدته بجلاء تجربة روسيا والمجر.. ففي روسيا نشأت مراراً أحوال صعبة. كان من شأنها أن تؤدي بكل تأكيد إلى قلب النظام السوفياتي، لو أن المنشفيك والإصلاحيين والديمقراطيين البرجوازيين الصغار، بقوا في داخل حزبنا.. كذلك الأمر في ايطاليا حيث يسود الرأي بوجه عام. بأن البروليتاريا تسير نحو خوض معارك فاصلة ضد البرجوازية، في سبيل الاستيلاء على سلطة الدولة. ففي فترة كهذه، ليس من الضروري فقط، بصورة مطلقة، إبعاد المنشفيك، والإصلاحيين والتوراتيين(43) عن الحزب، بل قد يكون من المفيد أيضاً حتى إبعاد شيوعيين ممتازين، من الذين يمكن أن يترددوا ومن الذين يظهرون تردداً في جانب الوحدة مع الإصلاحيين، من المفيد أبعادهم عن جميع المراكز الهامة.. إن أقل تردد في قلب الحزب، على أعتاب الثورة، وفي لحظات النضال الشديد الحامي في سبيل انتصارها، يمكن أن يؤدي إلى ضياع كل شيء، وأن يحبط الثورة وأن ينتزع الحكم من أيدي البروليتاريا، لأنه يكون حكماً غير وطيد بعد، ولأن الهجمات عليه ما تزال قوية جداً؛ فإذا انسحب الزعماء المترددون في مثل هذا الوقت، فذلك لن يضعف بل يقوي الحزب وحركة العمال والثورة جميعاً . (لينين الخطب المرئية عن الحرية المؤلفات الكاملة، المجلد 25، الصفحات 462 – 463 – 464).

- 9 -
الأسلوب في العمل

ليس المقصود هنا الأسلوب الأدبي. وإنما أريد أن أحدثكم عن الأسلوب في العمل، عن هذه الميزة الخاصة الفريدة في نشاط اللينينية العملي، الذي يخلق نوعاً خاصاً من المناضلين اللينينيين. إن اللينينية هي مدرسة نظرية وعملية تكّون نوعاً خاصاً من المناضلين في الحزب كما في جهاز الدولة، ويخلق أسلوباً خاصاً في العمل، هو الأسلوب اللينيني.
ماهي الخطوط المميزة لهذا الأسلوب؟ ما هي خصائصه؟
لهذا الأسلوب خاصتان اثنتان:
أ) الاندفاع الثوري الروسي.
ب) الروح العملية الأميركية.
وأسلوب اللينينية هو الجمع بين هاتين الخاصتين في العمل في داخل الحزب وفي جهاز الدولة.
فالاندفاع الثوري الروسي هو ترياق ضد الجمود والرتابة وروح المحافظة، وركود الفكر، والخضوع العبودي لتقاليد الأجداد. إن الاندفاع الثوري الروسي هو تلك القوة المحيية التي توقظ الفكر، وتدفع إلى أمام، وتحطم الماضي، وتفتح الآفاق. وبدون هذا الاندفاع، لا يمكن وجود أية حركة إلى أمام.
ولكن الاندفاع الثوري الروسي، يظل دائماً عرضة لأن يتحول، في النشاط العملي، إلى مانيلوفية(44) "ثورية" فارغة، إذا لم يتحد مع الروح العملية الأميركية في العمل. والأمثلة على مثل هذا التحول أكثر من أن تحصى. فمن منا لا يعرف داء تكلف الابتكار "الثوري" وهو من البرامج "الثوري" هذا الداء الناشئ عن الايمان الأعمى بقدرة المرسوم الذي يستطيع أن يدبر كل شيء، ويبدل كل شيء؟ في قصة عنوانها أوسكو متشيل (الإنسان الشيوعي الكامل) صوَّر كاتب روسي، هو أ. أهرنبرغ، طراز الشخص "البلشفي" المصاب بهذا الداء، وقد اختط لنفسه هدفاً هو وضع تصميم للإنسان الكامل والمثالي، فكان.. أن "غرق" في هذا "العمل". في هذه القصة قسط كبير من المبالغة، ولكن مما لا ريب فيه أنها قد أحسنت تصوير هذا الداء. ويبدو لي، مع ذلك، أنه ما من احد قط سخر بهؤلاء المرضى سخرية قاسية لاذعة كما فعل لينين.
"
الغرور الشيوعي"، هكذا كان لينين ينعت هذا الايمان المريض بالابتكار المتكلف وهوس المراسيم. يقول لينين:
"
إن الغرور الشيوعي هو صفة رجل عضو في الحزب الشيوعي، إلا أنه لم يطرد منه بعد، يتصور أن بوسعه أداء جميع مهماته عن طريق المراسيم الشيوعية".(خطاب القي في المؤتمر الثاني لشغيلة التعليم السياسي في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، في 17 تشرين الأول 1921 المؤلفات، المجلد 27 الصفحة 50 – 51).
لقد كان لينين عادة يجابه الهدر "الثوري" بالمهمات العادية اليومية مشيراً بذلك إلى أن تكلف الابتكار "الثوري" مضاد للينينية الحقة روحاً ونصاً. لقد كان يقول:
"
يلزمنا الإقلال من العبارات الطنانة، والإكثار من العمل البسيط اليومي..
يلزمنا الإقلال من الثرثرة السياسية، والإكثار من الانتباه لأبسط الوقائع التي هي، مع ذلك، حيوية للبناء الشيوعي". ("المبادرة الكبرى").
إن الروح العملية الأميركية هي، على العكس، ترياق ضد المانيلوفية "الثورية" والابتكارات الخيالية. إن الروح العملية الأميركية هي القوة التي، لا تُكبح ولا تعرف العقبات ولا تعترف بها، هي القوة التي، بثباتها الحاذق، تكتسح العقبات من كل نوع وكل درجة، ولا تحجم عن السير إلى النهاية بالمهمة التي تبدأها، مهما كانت ضئيلة الشأن، انها القوة التي بدونها لا يمكن تصور عمل بنائي جدي.
ولكن الروح العملية الأميركية عرضة دائماً لأن تنقلب إلى ضرب من الروح التجاري الضيق الخالي من المبدأ، إذا هي لم تقترن بالاندفاع الثوري الروسي. ومن منا لا يعرف داء الممارسة الضيقة وداء الروح التجاري الخالي من المبدأ، هذا الداء الذي يؤدي غالباً ببعض "البلاشفة" إلى الانحطاط والتخلي عن القضية الثورية؟ إن هذا الداء الخاص قد وصفه ب. بيلنياك في روايته: السنة العارية، حيث يعرض المؤلف نماذج من "البلاشفة" الروس المملوئين إرادة وتصميماً عملياً، وهم "يعملون" بكثير من "الهمة"، ولكنهم لا آفاق لهم، ولا يعرفون "لا ماذا ولا لماذا"، وهم، لهذا، ينحرفون عن جادة العمل الثوري. ولم يسخر أحد من داء الروح التجاري هذا مثل سخرية لينين اللاذعة. "ممارسة ضيقة" و"وروح تجارية خرقاء"، هكذا كان ينعت هذا الداء. وكان يجابهه، عادة، بالعمل الثوري الحي وبضرورة وجود الآفاق الثورية في أقل مهمة من أعمالنا اليومية، مشيراً بذلك إلى أن الروح التجاري الخالي من المبدأ هو أيضاً مضاد للينينية الحقة كتكلف الابتكار "الثوري".
إن الاندفاع الثوري الروسي، مقترناً بالروح العملية الأميركية، ذلك هو جوهر اللينينية في عمل الحزب والدولة.
إن هذا الاقتران فقط هو الذي يعطينا النموذج الكامل للمناضل اللينيني وأسلوب اللينينية في العمل.
- 1 -
الشروط الخارجية والداخلية لثورة أكتوبر


إن السهولة النسبية التي تمكنت بها الثورة البروليتارية في روسيا من تحطيم أغلال الامبريالية، وكذلك من الإطاحة بسلطة البرجوازية تتحدد بثلاث ظروف خارجية.
أولاً، لقد بدأت ثورة أكتوبر في مرحلة الصراع المسعور بين الكتلتين الامبرياليتين الرئيسيتين الانكليزية - الفرنسية و النمساوية - الألمانية، في الوقت الذي ما كانت فيه هاتان الكتلتان، المنهمكتان في صراع حتى الموت فيما بينها. تملكان لا الوقت ولا الوسائل للاهتمام بصورة جدية بمكافحة ثورة أكتوبر. ولقد كان لهذه الظروف أهمية فائقة بالنسبة إلى ثورة أكتوبر إذ أتاح لها أن تستفيد من المصادمات الحادة في معسكر الامبريالية لتوطد قواها وتنظمها.
ثانياً، لقد بدأت ثورة أكتوبر إبان الحرب الامبريالية، في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الكادحة، المرهقة بالحرب والطامحة إلى السلم، منقادة، بحكم منطق الأشياء بالذات، نحو الثورة البروليتارية باعتبارها منفذ النجاة الوحيد من الحرب. ولقد كان لهذا الظرف أكبر الأهمية بالنسبة إلى الامبريالية إذ وضع بين يديها أداة السلم القوية وأتاح لها إمكانية ربط الثورة السوفياتية بتصفية الحرب البغيضة وأكسبها بذلك عطف الجماهير سواء في الغرب بين العمال أم في الشرق بين الشعوب المضطهدة.
ثالثاً، وجود طبقة عاملة قوية في الغرب، ونضوج الأزمة الثورية، المتولدة عن الحرب الامبريالية الطويلة، في الغرب وفي الشرق. ولقد كان لهذا الظرف بالنسبة إلى الثورة الروسية أهمية لا تقدر بثمن لها حلفاء أوفياء خارج روسيا، في نضالها ضد الامبريالية العالمية.
ولكن بالإضافة إلى الظروف الخارجية - مهدت الطريق لثورة أكتوبر جملة من شروط داخلية سهلت لها الانتصار.
ويجب أن نميز من هذه الشروط التالية:
أولاً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكثر فعالية من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة العاملة في روسيا.
ثانياً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكيد من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة الفلاحية الفقيرة وغالبية الجنود الطامحين في السلم والأرض.
ثالثاً، لقد كان يقف على رأسها، كقوة قائدة، ذلك الحزب البلشفي، القوي لا بتجربته وانضباطه الذي أحكمت أواصره السنون فحسب، بل أيضاً بصلاته الواسعة مع الجماهير الكادحة.
رابعاً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكثر فعالية من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة العاملة ثورة أكتوبر تواجه أعداء يسهل نسبياً قهرهم ويتمثلون في البرجوازية الروسية الضعيفة بهذا القدر أو ذاك، وفي طبقة كبار الملاك العقاريين التي كانت معنوياتها قد انهارت تماماً بفعل " التمردات" الفلاحية، وفي الأحزاب التوفيقية ( المناشفة والاشتراكيين – الثوريين) التي كانت قد أفلست تمام الإفلاس إبان تلك الحرب.
خامساً، لقد كان في متناولها المساحات الشاسعة لدولة فتية، الأمر الذي أتاح لها إمكانية المناورة بحرية، فكانت تتراجع متى اقتضى الموقف ذلك وتسترد أنفاسها وتعيد تجميع قواها إلخ...
سادساً، لقد كان وسع ثورة أكتوبر أن تعتمد في صراعها مع الثورة المضادة، على كمية كافية من القوت والوقود والمواد الأولية داخل البلاد.
هذه الشروط الخارجية والداخلية مجتمعة أوجدت وضعاً خاصاً حدد السهولة النسبية لانتصار ثورة أكتوبر.
هذا لا يعني البتة، بالطبع، إن ثورة أكتوبر لم تواجه ظروفاً سالبة، في الخارج وفي الداخل سواء بسواء. ويكفي أن نعيد إلى الذهان، على سبيل المثال، ذلك الظرف السالب المتمثل في عزلة ثورة أكتوبر من بعض الوجوه وفي عدم وجود قطر سوفياتي مجاور إلى جانبها كان بوسعها الاعتماد عليه. وأنه لما لا يرتقي إليه الشك أن الثورة القادمة، في ألمانيا على سبيل المثال، ستجد نفسها، من هذا المنظور، في وضع انسب بحكم وجود قطر سوفياتي مرموق القوة، هو اتحادنا السوفياتي، في جوارها. وإنني لأضرب صفحاً عن ذلك الظرف السالب الآخر لثورة أكتوبر الناجم عن عدم وجود غالبية بروليتارية في البلاد.
بيد أن الظروف غير الموائمة إنما تبرز الأهمية الكبرى لذلك الوضع الفريد الذي كانت تمثله الشروط الخارجية والداخلية لثورة أكتوبر على نحو ما فصلنا آنفا.
هذا الوضع الفريد يجب ألا يغيب عن أنظارنا ولو للحظة واحدة. ومن الأجدر بنا أن نتذكره بوجه خاص عندما نحلل أحداث 1923، في ألمانيا. وعلى تروتسكي قبل أي إنسان آخر أن يتذكر ذلك، هو الذي يقيم دفعة واحدة تناظرا بين ثورة أكتوبر والثورة في ألمانيا، وينهال بسياطه دونما رادع على الحزب الشيوعي الألماني لأخطائه الواقعية والمزعومة.
يقول لينين:
"
لقد كان سهلا على روسيا، نظرا للوضع الفريد من نوعه إلى ابعد الحدود في عام1917، أن تبدأ الثورة الإشتراكية، في حين أن الاستمرار بها وقيادتها إلى خاتمة مطافها سيكون أصعب عليها مما على الأقطار الأوروبية. وقد سبق أن أتيحت لي الفرصة، في مستهل 1918، للتنويه بهذه الواقعة، ولقد أكدت تجربة عامين من الزمن طريقتي في تصور الأشياء. إن شروطاً نوعية مثل:
1.
إمكانية ربط الثورة السوفياتية بوقف الحرب الامبريالية- بفضل هذه الثورة- تلك الحرب التي كانت تعرض العمال والفلاحين إلى عذابات لا تصدق.
2.
إمكانية استغلال الصراع المستميت بين أقوى كتلتين في العالم من الكواسر الامبرياليين لحين من الزمن بعد عجزهما عن الاتحاد ضد العدو السوفياتي.
3.
إمكانية الصمود في حرب أهلية طويلة الأمد نسبيا بفضل ترامي أطراف البلاد وسوء وسائل مواصلاتها جزئيا.
4.
وجود حركة ثورية ديمقراطية برجوازية بالغة العمق في صفوف الطبقة الفلاحية إلى درجة أمكن معها لحزب البروليتاريا على السلطة السياسية- إن شروطا نوعية كهذه لا وجود لها في أوروبا الغربية في الوقت الراهن، وتجدد شروط مماثلة أو مشابهة ليس سهلا البتة. ولهذه الأسباب مجتمعة، بالإضافة إلى مجموعة من الأسباب الأخرى، فإن البدء بالثورة الاشتراكية سيكون أصعب على أوروبا الغربية مما علينا ". (مرض الطفولة- المجلد 25، ص 205، الطبعة الروسية).
إن كلمات لينين هذه لا يجوز لنا أن ننساها
- 2 -
حول خاصتي ثورة أكتوبر
أو ثورة أكتوبر و نظرية تروتسكي
في الثورة الدائمة

إن لثورة أكتوبر خاصتين لا غنى عن تفهمهما لإدراك المعنى الداخلي والأهمية التاريخية لهذه الثورة.
فما هاتان الخاصتان؟
الخاصة الأولى أن دكتاتورية البروليتاريا ولدت عندنا كسلطة منبثقة على أساس تحالف البروليتاريا وجماهير الفلاحين الكادحة بقيادة البروليتاريا. والخاصة الثانية أن دكتاتورية البروليتاريا توطدت عندنا كنتيجة لانتصار الاشتراكية في بلد واحد ضعيف التطور رأسماليا، بينما لا تزال الرأسمالية قائمة في البلدان الأخرى الأرقى تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية. هذا لا يعني، بالطبع، أن ثورة أكتوبر لا تتسم بخواص أخرى. ولكن ما يهمنا في الوقت الراهن هو على وجه التحديد هاتان الخاصتان، لا لأنهما تعبران بوضوح عن ماهية ثورة أكتوبر وحسب، بل أيضاً لأنهما تبرزان على نحو مرموق الطبيعة الانتهازية لنظرية الثورة الدائمة .
لندرس باقتضاب هاتين الخاصتين.
إن مسألة الجماهير الكادحة التي تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة المدينية والريفية ومسألة جذب هذه الجماهير إلى جانب البروليتاريا هي مسألة أساسية في الثورة البروليتارية. فلمن سيمحض الشعب الشغيل في المدينة و الريف تأييده في الصراع على السلطة، أللبرجوازية أم للبروليتاريا؟ و لمن سيصبح احتياطيا، أللبرجوازية أم للبروليتاريا؟ - إن مصير الثورة ورسوخ دكتاتورية البروليتاريا مرهونان بذلك. فلقد أخفقت ثورتا 1948 و1871 في فرنسا لأن الاحتياطي الفلاحي بوجه خاص وقف إلى جانب البرجوازية. و لقد انتصرت ثورة أكتوبر لأنها عرفت كيف تنتزع من البرجوازية احتياطيها الفلاحي، ولأنها عرفت كيف تدفع بهذا الاحتياطي إلى جانب البروليتاريا، ولأن البروليتاريا كانت في هذه الثورة القوة القائدة الوحيدة لجماهير الشعب الشغيل التي لا يحصى لها عد في المدينة والأرياف.
ومن لم يفهم ذلك لن يفهم أبداً لا طابع ثورة أكتوبر، ولا طبيعة دكتاتورية البروليتاريا، ولا الطابع الخاص للسياسة الداخلية لسلطتنا البروليتاريا.
إن دكتاتورية البروليتاريا ليست محض نخبة حكومية تم انتقائها بذكاء بجهود مخطط استراتيجي محنك ، و تستند بحكمة إلى هذه الشريحة أو تلك من شرائح السكان. إن دكتاتورية البروليتاريا هي تحالف طبقة البروليتاريا وجماهير الفلاحين الشغيلة للإطاحة بالرأسمال، ولتحقيق النصر النهائي للاشتراكية، شريطة أن تكون البروليتاريا هي القوة القائدة لهذا التحالف.
ليست المسألة إذن التهوين ولو قيد شعرة من الإمكانات الثورية للحركة الفلاحية، كما يحلو الآن لبعض المدافعين الدبلوماسيين عن الثورة الدائمة أن يقولوا. وإنما المسألة مسألة طبيعة الدولة البروليتارية الجديدة المنبثقة عن ثورة أكتوبر، مسألة طابع السلطة البروليتارية وأسس دكتاتورية البروليتاريا بالذات.
يقول لينين:
إن دكتاتورية البروليتاريا شكل خاص من التحالف الطبقي بين البروليتاريا، طليعة الشغيلة، و بين الشرائح العديدة غير البروليتارية من الشغيلة (البرجوازية الصغيرة، صغار أرباب العمل، الطبقة الفلاحية، المثقفين، الخ)، أو غالبية هذه الشرائح، وهو تحالف موجه ضد الرأسمال، تحالف يستهدف الإطاحة الكاملة بالرأسمال والسحق الكامل لمقاومة البرجوازية ولمحاولتها للاستيلاء على الحكم مجدداً، تحالف يرمي إلى تأسيس الاشتراكية وتوطيدها بصورة نهائية . (مقدمة خطاب: كيف يخدع الشعب بشعارات الحرية و المساواة ، المجلد 24، ص311، الطبعة الروسية).
و يقول فيما بعد:
إن دكتاتورية البروليتاريا، إذا ما ترجم هذا التعبير اللاتيني العلمي، التاريخي- الفلسفي، إلى لغة أبسط، تعني أن طبقة محددة لا غير – هي طبقة عمال المدن، وبوجه عام عمال المصانع، العمال الصناعيين - هي وحدها القادرة على قيادة جمهرة الشغيلة والمستغلين بأسرهم في النضال من أجل الإطاحة بنير الرأسمال، إبان هذه الإطاحة بالذات؛ وفي النضال من أجل الحفاظ على النصر وتوطيده، وفي مأثرة إنشاء نظام اجتماعي جديد، اشتراكي؛ وفي مجمل النضال من أجل إلغاء الطبقات إلغاء كاملاً . ( المبادرة الكبرى ، المجلد 24، ص 336).
هذه هي نظرية دكتاتورية البروليتاريا كما صاغها لينين.
و إحدى خواص ثورة أكتوبر تتمثل في أن هذه الثورة تطبيق كلاسيكي للنظرية اللينينية عن دكتاتورية البروليتاريا.
و يخيل إلى بعض الرفاق أن هذه النظرية نظرية روسية خالصة لا صلة لها بغير الواقع الروسي. هذا غير صحيح، غير صحيح بالمرة. فلينين في حديثه عن الجماهير الكادحة من الطبقات غير البروليتارية التي تقودها البروليتاريا لا يقصد الفلاحين الروس فحسب، بل أيضاً العناصر الشغيلة من مناطق الأطراف في الاتحاد السوفياتي، تلك المناطق التي كانت إلى عهد قريب مستعمرات لروسيا. وما كان لينين يتعب أو يكل من التكرار بأن البروليتاريا روسيا لن تكتب لها الغلبة إذا لم تتحالف مع هذه الجماهير من القوميات الأخرى. و لقد قال لينين مراراً و تكراراً في مقالاته التي عالج فيها المسألة القومية وفي خطاباته أمام مؤتمرات الأممية الشيوعية أن انتصار الثورة العالمية مستحيل بدون التحالف الثوري والتكتل الثوري بين بروليتاريا المدن المتقدمة والشعوب المضطهدة في المستعمرات المسترقة. ولكن ما المستعمرات إن لم تكن تلك الجماهير الشغيلة المضطهدة ذاتها، وفي المقام الأول جماهير الفلاحين الشغيلة؟ هل ثمة من يجهل أن مسألة تحرر المستعمرات هي في واقع الأمر مسألة تحرر الجماهير الشغيلة التي تنتمي إلى الطبقات غير البروليتارية من نير الرأسمال المالي واستغلاله؟
ومن هذا يتضح أن النظرية اللينينية دكتاتورية البروليتاريا ليست نظرية روسية خالصة، وإنما نظرية ملزمة لجميع الأقطار. والبلشفية ليست ظاهرة روسية فحسب. يقول لينين: إن البلشفية نموذج تكتيكي للجميع ( الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، المجلد 23، ص 386، الطبعة الروسية).
هذه هي السمات المميزة لأولى خواص ثورة أكتوبر.
فما كنه نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة ، من وجهة نظر خاصة ثورة أكتوبر هذه؟
إننا لن نتوقف عند موقف تروتسكي في عام 1905 عندما نسي بكل بساطة الطبقة الفلاحية بوصفها قوة ثورية إذ اقترح شعار لا قيصر، وإنما حكومة عمالية ، أي شعار الثورة دون الطبقة الفلاحية. وحتى راديك، ذلك المحامي الدبلوماسي عن الثورة الدائمة، يجد نفسه مكرها الآن على الاعتراف بأن الثورة الدائمة في عام 1905 كانت تعني قفزة في الفراغ ومجانبة للواقع. ويقر الجميع اليوم بلا لبس بأن الاهتمام بهذه القفزة في الفراغ جهد ضائع.
ولن نتوقف كذلك عند موقف تروتسكي إبان الحرب، في عام 1915 على سبيل المثال، عندما انتهى إلى الاستنتاج في مقاله الصراع على السلطة بأن الدور الثوري للطبقة الفلاحية آيل إلى الضمور لا محالة، وبأن شعار مصادرة الأرض فقد ما كان له من أهمية في السابق، وهذا كله انطلاقاً من واقع أننا نحيا في عصر الامبريالية وأن الامبريالية لا تؤلب الأمة البرجوازية على النظام القديم، بل تؤلب البروليتاريا على البرجوازية . ومعروف أن لينين اتهم تروتسكي، في معرض تحليل مقاله ذاك، ب نفي دور الطبقة الفلاحية ، وقال أن تروتسكي يساعد في الواقع سياسيي العماليين الليبراليين الذين يفهمون نفي دور الطبقة الفلاحية على أنه امتناع عن حض الفلاحين على الثورة . ( خطا الثورة ، المجلد 18، ص 318، الطبعة الروسية).
و الأجدر بنا أن ننتقل إلى أحدث كتابات تروتسكي عن هذه المسألة، إلى كتابات المرحلة التي كان الوقت قد أتيح فيها لدكتاتورية البروليتاريا كيما توطد نفسها والتي كان متاحا فيها لتروتسكي أن يتحقق عمليا من صحة نظريته في الثورة الدائمة وأن يصحح أخطائه. لنأخذ المقدمة التي كتبها في عام 1922 لكتابه المعنون 1905 . وإليكم ما يقوله في تلك المقدمة بصدد الثورة الدائمة : إنما في الحقبة الفاصلة بين 9 كانون الثاني وإضراب تشرين الأول 1905 تكونت لدى المؤلف تصوراته عن طابع تطور روسيا الثوري، تلك التصورات التي عرفت باسم نظرية الثورة الدائمة . ولقد كانت هذه التسمية العويصة تعبر عن الفكرة القائلة بأن الثورة الروسية، التي تواجه مباشرة أهدافاً برجوازية، لا تستطيع رغم ذلك أن توقف عند هذه الغاية. فالثورة لن تستطيع تحقيق هذه الأهداف البرجوازية المباشرة ما لم تحمل البروليتاريا إلى سدة السلطة. والحال أن البروليتاريا، بمجرد استيلائها على السلطة، لن يكون في مقدورها أن تحد نفسها بإطار الثورة البرجوازي. بل على النقيض من ذلك، فالطليعة البروليتارية سترى لزاما عليها، من الأيام لسيطرتها، وضماناً لانتصارها على وجه التحديد، أن تقوم بأعمق الاقتحامات لا في الملكية الإقطاعية فحسب، وإنما في الملكية البرجوازية أيضا. وهي بفعلها هذا ستدخل في صدام عدائي، لا مع تكتلات البرجوازية التي تكون قد محضتها مؤازرة في مستهل نضالها الثوري فحسب، وإنما أيضاً جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة التي يكون تضافرها قد دفع بها إلى السلطة. ولن تجد التناقضات التي ستواجه الحكومة العمالية في قطر متأخر تتألف من الفلاحين، من حل لها إلا على الصعيد الأممي وفي حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا (1)
هكذا يتكلم تروتسكي عن ثورته الدائمة .
ويكفي أن نقارن بين هذا الشاهد وبين الشواهد التي أوردها آنفا واقتبسناها من مؤلفات لينين عن دكتاتورية البروليتاريا، حتى ندرك أي هوة تفصل النظرية اللينينية في دكتاتورية البروليتاريا عن نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة .
إن لينين يتكلم عن تحالف البروليتاريا والشرائح الشغيلة من الطبقة الفلاحية، على اعتباره أساس دكتاتورية البروليتاريا. والحال أن تروتسكي يرى أن الصدام العدائي ناشب لا محالة بين الطليعة البروليتارية و جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة .
ويتحدث لينين عن قيادة البروليتاريا للجماهير الشغيلة والمستغلة. والحال أن تروتسكي يرى في ذلك تناقضات ستواجه الحكومة العمالية في قطر متأخر تتألف غالبيته الساحقة من الفلاحين .
وفي حين يرى لينين أن الثورة تستمد قواها من عمال روسيا وفلاحيها بالذات قبل كل شيء، يذهب تروتسكي لا يترك إلا بصيص من الأمل لأن التناقضات التي ستواجه الحكومة العمالية... لن من حل لها... إلا في حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا . وبمقتضى هذه الخطة لا يبقى أمام ثورتنا غير منظور واحد: أن تراوح في تناقضاتها الذاتية وأن تهلك في مكانها في انتظار الثورة العالمية.
ما دكتاتورية البروليتاريا في رأي لينين؟
ما دكتاتورية البروليتاريا إلا السلطة التي تستند إلى تحالف البروليتاريا والجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية للإطاحة الكاملة بالرأسمال و لتأسيس الاشتراكية وتوطيدها بصورة نهائية .
ما دكتاتورية البروليتاريا في رأي تروتسكي؟
ما دكتاتورية البروليتاريا إلا سلطة تدخل في صدام عدائي مع جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة وتبحث عن حل التناقضات في حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا وحدها.
بم تختلف نظرية الثورة الدائمة هذه عن نظرية المنشفية المشهورة التي تنفي فكرة دكتاتورية البروليتاريا؟
الحقيقة أنها لا تختلف عنها في شيء.
ولا مجال للشك. فـ الثورة الدائمة ليست مجرد تهوين من الإمكانيات الثورية للحركة الفلاحية. وإنما الثورة الدائمة استهانة بالحرمة الفلاحية إلى درجة إنكار النظرية اللينينية عن دكتاتورية البروليتاريا.
إن ثورة تروتسكي الدائمة وجه من وجوه المنشفية.
هذا فيما يتعلق بالخاصة الأولى لثورة أكتوبر.
فما السمات المميزة لثورة أكتوبر الثانية؟
لقد توصل لينين، من خلال دراسته للامبريالية، ولاسيما في مرحلة الحرب، إلى قانون لا نظامية تطور البلدان الرأسمالية الاقتصادي والسياسي ولا استمراريته. هذا القانون يعني أن تطور المشاريع والتروستات والفروع الصناعية والأقطار المختلفة لا يتم بصورة نظامية وتسلسلية ثابتة، بحيث أن هذا التروست أو ذاك وهذا الفرع الصناعي أو ذاك وهذا أو ذاك يسير دوما في الطليعة بينما تبقى سائر التروستات أو الأقطار في المؤخرة، تفصل بينها باستمرار المسافات ذاتها. وإنما يتم ذلك التطور، على العكس، في شكل قفزات، مع انقطاع في تطور بعض الأقطار ووثبات إلى الأمام في تطور الأخرى. والحال أن ميل الأقطار المتأخرة المشروع تماماً إلى الحفاظ على مواقعها القديمة، وميل الأقطار التي قفزت إلى الأمام – وهو ميل لا يقل عن الأول مشروعية - إلى الاستيلاء على مواقع جديدة، يجعلان من المصادمات العسكرية بين أقطار الامبريالية ضرورة محتومة. هذا ما كانه، على سبيل المثال، وضع ألمانيا التي كانت، لنصف قرن من الزمن خلا، قطرا متأخرا بالمقارنة مع فرنسا وانكلترا. والقول نفسه ينطبق على اليابان بالمقارنة مع روسيا. بيد أننا نعلم أن ألمانيا واليابان قد قفزا منذ مستهل القرن العشرين قفزة هائلة إلى الأمام، فنجحت الأولى في تخطي فرنسا وشرعت تزيح انكلترا وتحتل مكانها في السوق العالمية، وشرع الثاني بإزاحة روسيا. وإنما من هذه التناقضات تأتي، كما هو معروف، الحرب الامبريالية الأخيرة.
إن ذلك القانون ينطلق من الوقائع التالية:
1.
لقد تحولت الرأسمالية إلى نظام عالمي من الاضطهاد الاستعماري والخنق المالي للغالبية الساحقة من سكان المعمورة على يد حفنة من الأقطار المتقدمة . (لينين: مقدمة الطبعة الفرنسية لـ الامبريالية ، المجلد 19، ص 74، الطبعة الروسية).
2.
إن تقاسم هذه الغنائم قد جرى بين اثنين أو ثلاثة من الكواسر الكلية القدرة، المسلحة من أخمص قدميها إلى رأسها (أمريكا، انكلترا، اليابان)، والتي جرفت الكرة الأرضية بأسرها في حربها من أجل تقاسم غنائمها . (المصدر نفسه).
3.
إن نمو التناقضات داخل النظام الاضطهاد المالي العالمي والمصادمات العسكرية المحتومة تجعل الجبهة العالمية للامبريالية هشة قابلة لأن تحطم بسهولة على يد الثورة، كما تجعل قطيعة بعض الأقطار مع الجبهة ممكنة .
4.
إن فرص وقوع هذه القطيعة هي على أكبر ما يمكن أن تكون عند النقاط وفي الأقطار التي تكون فيها سلسلة جبهة الامبريالية على أضعف ما يمكن أن تكون، أي حيث تكون الامبريالية أوهن تحصينا وحيث يكون في مستطاع الثورة أن تتطور بسهولة.
5.
لهذا فإن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ممكن تماماً ومرجح، حتى وإن كان هذا البلد من أضعف البلدان تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية، وحتى وإن كانت الرأسمالية ما تزال على قيد الحياة في البلدان الأخرى بما فيها البلدان الأقوى تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية.
تلكم هي باختصار مبادئ النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
فما كنه ثانية خصائص ثورة أكتوبر؟
إن ثانية خصائص ثورة أكتوبر تكمن في أن هذه الثورة تؤلف نموذجاً للتطبيق العملي للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
ومن لم يفهم خاصة ثورة أكتوبر هذه فلن يفهم أبداً الطبيعة الأممية لهذه الثورة، ولا قوتها الأممية الهائلة، ولا سياستها الخارجية الفريدة في نوعها.
يقول لينين:
إن عدم تساوي التطور الاقتصادي والسياسي قانون مطلق من قوانين الرأسمالية. ومن هنا فإن انتصار الاشتراكية ممكن في البداية في عدد صغير من البلدان الرأسمالية، أو حتى في بلد رأسمالي واحد فرد. وفي هذه الحال فإن البروليتاريا الظافرة في هذا القطر، بعد أن تصادر ملكية الرأسماليين وتنظم الإنتاج الاشتراكي، ستهب ضد بقية العالم الرأسمالي، جاذبة إليها الطبقات المضطهدة من البلدان الأخرى، ومحرضة إياها على التمرد على الرأسماليين، وغير محجمة عند الضرورة عن استخدام القوة العسكرية ضد طبقات المستغلين ودولهم. ذلك أن اتحاد الأمم الحر في ظل الاشتراكية مستحيل بدون نضال عنيد، طويل الأمد بهذا القدر أو ذاك، من جانب الجمهوريات الاشتراكية ضد الدول المتأخرة ( حول شعار الولايات المتحدة الأوروبية : المجلد 18، ص 232-233، الطبعة الروسية).
إن الانتهازيين من جميع الأقطار يزعمون أن الثورة البروليتارية لا يمكن أن تبدأ –هذا إذا كان مقيضا لها موجب نظريتهم أن تبدأ في مكان ما – إلا في البلدان المتطورة صناعياً، وأنه كلما كانت هذه البلدان أكثر تطوراً من الزاوية الصناعية كانت فرص الاشتراكية في الانتصار أكبر. أما انتصار الاشتراكية في بلد واحد فإنهم يستبعدونها كما لو أنها من رابع المستحيلات ولاسيما إذا كان ذلك البلد ضعيف التطور من وجهة النظر الرأسمالية. ولقد كان لينين، إبان الحرب، وبالاستناد إلى قانون التطور اللامتساوي للدول الامبريالية، قد عارض الانتهازيين بنظريته عن الثورة البروليتارية بخصوص انتصار الاشتراكية في بلد واحد حتى وإن كان أوهن البلدان تطوراً من وجهة النظر الرأسمالية.
ومعلوم أن ثورة أكتوبر قد أيدت كامل التأييد صحة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
فكيف تتبدى ثورة تروتسكي الدائمة من وجهة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
لنأخذ كراسة تروتسكي: ثورتنا (1906). يكتب تروتسكي
إن الطبقة العاملة في روسيا لن تستطيع أن تصمد في موقع السلطة وأن تحول سيطرتها المؤقتة إلى دكتاتورية اشتراكية دائمة دون مساعدة حكومية مباشرة من جانب البروليتاريا الأوروبية. هذه حقيقة لا يمكن أن يخامرنا فيها الشك لحظة واحدة .
ما فحوى هذا الشاهد؟ فحواه أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد، ولاسيما في روسيا، مستحيل بدون مساعدة حكومية مباشرة من جانب البروليتاريا الأوروبية ، أي قبل استيلاء البروليتاريا الأوروبية على السلطة.
هل هناك من صلة بين هذه النظرية وبين أطروحة لينين عن إمكانية انتصار الاشتراكية في بلد رأسمالي واحد فرد ؟
جلي للعيان أن ليس هناك من صلة.
ولكن لنفترض أن كراسة تروتسكي، المنشورة تلك في عام 1906، في وقت كان يصعب فيه تحديد طابع ثورتنا، تحتوي أخطاء لاإرادية ولا تنطبق تمام الانطباق على التصورات التي أخذ بها تروتسكي فيما بعد. لنأخذ كراسة لتروتسكي، ولتكن برنامجه للسلم الصادرة قبل ثورة أكتوبر 1917، والمعاد طبعها الآن (في عام 1924) في كتابه 1917 . ينتقد تروتسكي في هذه الكراسة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية بصدد انتصار الاشتراكية في بلد واحد، ويعارضها بشعار الولايات المتحدة الأوروبية. ويزعم أن انتصار الاشتراكية مستحيل في بلد واحد، وأن انتصار الاشتراكية ليس ممكنا إلا إذا أخذ انتصار لعدة بلدان أوروبية رئيسية (انكلترا، روسيا، ألمانيا) في إطار الولايات المتحدة الأوروبية – وهو مستحيل مطلق الاستحالة في غير هذه الحال. ويقول بجلاء ما بعده جلاء أن ثورة مظفرة في روسيا أو في انكلترا لا يمكن تصورها بدون ثورة في ألمانيا، وبالعكس .
يقول تروتسكي:
إن الاعتراض التاريخي الوحيد ولو في أضيق الحدود على شعار الولايات المتحدة قد صدر عن جريدة الاشتراكي-الديمقراطي السويسرية (الصحيفة المركزية للبلاشفة في ذلك الزمن .ج.س) بالصيغة التالية: إن تفاوت الاقتصادي والسياسي قانون مطلق في الرأسمالية . ومن هنا استخلصت الاشتراكي-الديمقراطي نتيجة تقول أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ممكن، وأنه لا جدوى بالتالي من اعتبار تكوين الولايات المتحدة الأوروبية شرطا لدكتاتورية البروليتاريا في كل دولة على حدة. أما أن التطور الرأسمالي للبلدان المختلفة غير متساو، فهذا أمر لا يقبل جدالا بحال من الأحوال، ولكن هذه اللامساواة هي متفاوتة إلى أبعد الحدود. فالمستوى الرأسمالي لانكلترا أو للنمسا أو لفرنسا ليس واحدا. بيد أن هذه الأقطار مجتمعة تمثل، بالمقارنة مع أفريقا وأسيا، أوروبا الرأسمالية الناضجة للثورة الاجتماعية. والفكرة الأساسية التي نرى أن من المفيد ومن الضروري الإلحاح عليها هي أنه لا يتوجب على أي قطر أن ينتظر الأقطار الأخرى في نضاله، وذلك حتى لا تحل فكرة الخمول الأممي الانتظاري محل فكرة العمل الأممي المتوازي. فمن دون أن ننتظر الآخرين نبدأ النضال ونستمر به على المستوى القومي، مع يقيننا الكامل بأن مبادرتنا ستكون حافزا للنضال في الأقطار الأخرى. وإذا لم تسر الأمور على هذا النحو، فلا مجال إلى الاعتقاد بأن روسيا الثورية على سبيل المثال ستكون قادرة على الصمود في وجه أوروبا المحافظة، أو بأن ألمانيا الاشتراكية ستكون قادرة على البقاء بمفردها في العالم الرأسمالي –ولنا في التجربة التاريخية والاعتبارات النظرية خير دليل على ذلك .
إنها كما ترون النظرية عينها عن الانتصار المتواقت للاشتراكية في الأقطار الأوروبية الرئيسية، تلك النظرية التي تنفي بوجه عام النظرية اللينينية عن الثورة بصدد انتصار الاشتراكية في بلد واحد.
لا مراء أن في انتصار الاشتراكية التام وفي أن الضمانة الكاملة ضد عودة النظام القديم يستلزمان تضافر جهود البروليتاريين في عدة أقطار. ولا مراء في أن بروليتاريا روسيا ما كانت لتستطيع، لولا دعم بروليتاريا أوروبا لثورتنا، أن تقاوم الضغط العام، تماما كما أن الحركة الثورية في الغرب ما كانت تستطيع، لولا دعم الثورة الروسية لها، أن تتطور بنفس الإيقاع الذي شرعت تتطور به بعد إرساء أسس دكتاتورية البروليتاريا في روسيا. لا مراء في أننا بحاجة إلى دعم. ولكن ماذا نعني بدعم بروليتاريا أوروبا الغربية لثورتنا؟ هل يشكل تعاطف العمال الأوروبيين مع ثورتنا ورغبتهم في إحباط مخططات الامبرياليين للتدخل، هل يشكل هذا كله مساعدة جدية؟ بلا جدال. فبدون مثل هذا الدعم وبدون مثل هذه المساعدة، لا من جانب العمال الأوروبيين فحسب بل أيضاً من جانب المستعمرات والبلدان التابعة، كانت دكتاتورية البروليتاريا في روسيا ستجد نفسها في مأزق صعب. هل كان ذلك التعاطف وهذه المساعدة كافيين حتى الآن، بالإضافة إلى قوة جيشنا الأحمر وإلى تصميم عمال روسيا وفلاحيها على تقديم صدورهم دفاعاً عن الوطن الاشتراكي – هل كان هذا كله كافياً ضد هجمات الامبرياليين ولتوفير الشروط الضرورية لعمل بناء جدي؟ بلى، كان هذا كافيا! وذلك التعاطف، أهو آخذ بالتزايد أم بالتناقص؟ إنه يتزايد بلا جدال. هل تتوفر لدينا بالتالي شروط مناسبة، لا للتقدم إلى أمام بتنظيم الاشتراكي فحسب، بل أيضاً لنقدم بدورنا دعما لعمال أوروبا الغربية ولشعوب الشرق المضطهدة على حد سواء؟ بلى، إنها متوفرة. وتاريخ السنوات السبع من دكتاتورية البروليتاريا في روسيا أفصح دليل على ذلك. هل يسعنا أن ننكر أن العمل قد انطلق انطلاقة رائعة لدينا؟ كلا، لا نستطيع أن ننكر ذلك.
ما المعنى الذي يمكن أن يكون بعد هذا كله لتصريح تروتسكي القائل بأن روسيا الثورية لا تستطيع الصمود في وجه أوروبا المحافظة؟
لا يمكن أن يكون له غير معنى واحد وهو: أن تروتسكي أولاً لا يشعر بالقوة الداخلية لثورتنا، وتروتسكي ثانياً لا يفهم الأهمية التي لا تقدر بثمن للتأييد المعنوي الذي يقدمه عمال أوروبا وفلاحو الشرق لثورتنا، وتروتسكي ثالثاً لا يرى الداء الداخلي الذي ينخر الامبريالية في الوقت الراهن.
إن تروتسكي. الذي أخذ في شباك نقده للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية، قد هزم نفسه بنفسه، من قبيل السهو والغفلة، شر هزيمة في كراسته برنامج السلم التي صدرت عام 1917 وأعيد نشرها عام 1924.
ولكن لعل كراسة تروتسكي هذه قد تقادم عليها بدورها، فما عادت، لسبب من الأسباب، تتطابق مع تصوراته اليوم؟ لنأخذ مؤلفات تروتسكي الأحدث عهدا والمكتوبة بعد انتصار ثورة البروليتارية في بلد واحد، في روسيا. لنأخذ على سبيل المثال مقدمة تروتسكي للطبعة الجديدة لكراسته برنامج السلم ، تلك المقدمة التي كتبها عام 1922. إليكم ما يقوله فيها:
إن التوكيد القائل بأن الثورة البروليتارية لا يمكن السير بها إلى خاتمة مطافها بنجاح في الإطار القومي، وهو التوكيد الذي كررناه مرارا في برنامج السلم ، قد يبدو اليوم، في نظر بعض القراء، وكأن تجربة جمهوريتنا السوفياتية التي باتت لها من العمر حوالي خمس سنين تكذبه. ولكن مثل هذا الاستنتاج يفتقر إلى أساس ومبرر. فلئن كانت الدولة العمالية في بلد واحد، وبلد متأخر علاوة على ذلك، قد قاومت العالم قاطبة وصمدت أمامه، فإن هذه الواقعة تشهد على القوة الهائلة للبروليتاريا التي ستكون قادرة على إنجاز معجزات حقيقة في الأقطار الأخرى الأكثر تقدما والأرسخ حضارة. ولكن إذا كنا قد صمدنا سياسيا وعسكريا كدولة، فإننا لم نفلح في بناء مجتمع اشتراكي، بل إننا لم نقترب منه مجرد اقتراب... وما دامت البرجوازية تتربع على سدة السلطة في البلدان الأوروبية الأخرى، فإننا نكون مرغمين في نضالنا ضد العزلة الاقتصادية على السعي وراء اتفاقات مع العالم الرأسمالي. وفي وسعنا القول في الوقت نفسه بيقين تام بأن تلك الاتفاقات قد تساعدنا، في أحسن الأحوال، على شفاء هذا الجرح أو ذاك من جروحنا الاقتصادية، وعلى التقدم خطوة إلى الأمام في هذا الاتجاه أو ذاك، ولكن النهضة الحقيقية للاقتصاد الاشتراكي في روسيا لن تكون ممكنة إلا بعد انتصار البروليتاريا في الأقطار الأوروبية الرئيسية .
هكذا يتكلم تروتسكي ناطحا رأسه بصخرة الواقع ومعاندا في تصميمه على إنقاذ الثورة الدائمة من الغرق النهائي .
وهكذا فإننا مهما نفعل ومهما نقل فلكن نكون قد أفلحنا في بناء مجتمع اشتراكي، بل لن نكون قد اقتربنا منه مجرد اقتراب . وهناك من يعلق الآمال، على ما يبدو، على اتفاقات مع العالم الرأسمالي ، بيد أن هذه الاتفاقات لم تجد هي الأخرى فتيلا على ما يبدو. ذلك أننا مهما نفعل ومهما نقل، فإن النهضة الحقيقية للاقتصاد الاشتراكي لن تكون ممكنة ما لم تنتصر البروليتاريا في الأقطار الأوروبية الرئيسية .
ولما لم يكن أي انتصار قد تحقق بعد في الغرب، لا يبقى أمام الثورة روسيا غير خيار واحد: أما أن تفطس في مكانها وأما أن تنحط إلى دولة برجوازية.
وليس من قبيل الصدفة أن يتكلم تروتسكي، منذ عامين من الزمن، عن انحطاط حزبنا.
وليس من قبيل الصدفة أن يكون تروتسكي، قد تنبأ في العام الماضي بـ هلاك وطننا.
كيف نوفق بين هذه النظرية الغريبة وبين نظرية لينين عن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ؟
كيف نوفق بين هذه النظرة الغريبة وبين نظرة لينين التي ترى أن السياسة الاقتصادية الجديدة ستتيح لنا إمكانية بناء أسس الاقتصاد الاشتراكي ؟
كيف نوفق بين هذا اليأس الدائم وبين كلمات لينين التالية على سبيل المثال:
إن الاشتراكية لم تعد من الآن مسألة مستقبل بعيد، أو نوعا من رؤية مجردة، أو نوعا من أيقونة. وفيما يتعلق بالأيقونات، نحن مازلنا على رأينا السابق، البالغ السوء. لقد أدخلنا الحياة الاشتراكية إلى الحياة اليومية، وعلينا الآن أن نشق طريقنا إليها. هذه هي مهمتنا اليوم، هذه هي مهمة عصرنا. اسمحوا لي بأن أنهي خطابي معبرا عن يقيني بأن هذه المهمة مهما تكن شاقة ومهما تكن جديدة بالمقارنة مع مهمتنا السابقة ومهما تكن عديدة الصعوبات التي تثيرها أمامنا، فإنها سننجزها، جميعنا معا، أيا يكن الثمن، لا في الغد مباشرة، وإنما على مدى عدة سنوات، بحيث تصبح روسيا السياسية الاقتصادية الجديدة روسيا اشتراكية . ( خطاب في الهيئة العامة لسوفييت موسكو – المجلد 27، ص 366، الطبعة الروسية).
كيف نوفق بين انعدام بعد النظر الدائم ذاك وبين كلمات لينين الأخيرة التالية على سبيل المثال:
بالفعل أليست سلطة الدولة على جميع وسائل الإنتاج الرئيسية، أليست سلطة الدولة التي بين يدي البروليتاريا، أليست تحالف هذه البروليتاريا مع الملايين والملايين من صغار الفلاحين، أليست قيادة البروليتاريا للطبقة الفلاحية، الخ، أليس هذا هو كل اللازم حتى نستطيع بواسطة التعاون، والتعاون وحده، الذي كنا نصفه في السابق بالروح التجارية والذي يحق لنا اليوم أيضاً، في السياسة الاقتصادية الجديدة، أن نصفه بالوصف نفسه – أليس هذا هو كل اللازم لبناء المجتمع الاشتراكي الكامل؟ إننا لا نتكلم بعد عن بناء المجتمع الاشتراكي، وإنما عن كل ما هو لازم وكاف لبنائه . ( حول التعاون – المجلد 27، ص 392، الطبعة الروسية).
من الجلي الواضح أنه لا مجال هناك لأي توفيق. فـ ثورة تروتسكي الدائمة هي نفي النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية، وكذلك بالعكس: فالنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية هي نفي نظرية الثورة الدائمة .
انعدام الإيمان بقوى ثورتنا وطاقاتها، انعدام الإيمان بقوى بروليتاريا روسيا وطاقاتها، هذا هو باطن نظرية الثورة الدائمة .
لقد كان يشار عادة حتى اليوم إلى جانب واحد من جوانب نظرية الثورة الدائمة : انعدام الإيمان بالإمكانات الثورية للحركة الفلاحية. ومن الضروري اليوم، إنصافا للحقيقة، أن نكمل هذا الجانب بجانب آخر : انعدام الإيمان بقوى بروليتاريا روسيا وطاقاتها.
بم تختلف نظرية تروتسكي عن نظرية المنشفية المبتذلة القائلة أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد، وبلد متأخر علاوة على ذلك، مستحيل بدون مسبق للثورة البروليتارية في أقطار أوروبا الغربية الرئيسية ؟
لا تختلف عنها في شيء، في واقع الأمر.
لا مجال للشك. أن نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة هي ضرب من المنشفية.
لقد تكاثرت في صحافتنا في الآونة الأخيرة محاولات الدبلوماسيين المتعفنين لتمرير نظرية الثورة الدائمة كنظرية لا تتنافى واللينينية. فهم يقولون: لا ريب في أن هذه النظرية قد أقام الدليل على عدم صلاحيتها في عام 1905. ولكن غلطة تروتسكي آنذاك أنه استبق الأحداث إذ حاول أن يطبق على وضع 1905 ما لم يكن قابلاً للانطباق عليه في تلك المرحلة. أما فيما بعد على حد زعمهم، في أكتوبر 1917 على سبيل المثال، فإن نظرية تروتسكي باتت موائمة تماماً على حد ما يدعون بعد نضج الثورة. وليس من الصعب أن نخمن إن رائد أولئك الدبلوماسيين هو راديك. فلنستمع إليه:
لقد حفرت الحرب هوة بين الطبقة الفلاحية التي تهفو إلى الاستيلاء على الأرض وإلى السلم وبين الأحزاب البرجوازية الصغيرة. ولقد وضعت الحرب الطبقة الفلاحية تحت قيادة الطبقة العاملة وطليعتها، الحزب البلشفي. وما أصبح ممكنا ليس ديكتاتورية الطبقة العاملة المستندة إلى الطبقة الفلاحية. ولقد اتضح بالفعل أن ما قال به تروتسكي وروزا لوكسمبرغ في عام 1905 ضد لينين (أي الثورة الدائمة –ج.ز.) كان المرحلة الثانية من التطور التاريخي .
إن كل كلمة من هذه الكلمات تنضج بالتلفيق .
فليس صحيحاً أن ما أصبح ممكناً إبان الحرب ليست دكتاتورية الطبقتين العاملة والفلاحية وإنما دكتاتورية الطبقة العاملة المستندة إلى الطبقة الفلاحية. والواقع أن ثورة شباط 1917 قد حققت دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين جامعة بينها وبين دكتاتورية البرجوازية على نحو غير متوقع.
وليس صحيحاً أن نظرية الثورة الدائمة التي يلزم راديك الصمت بصددها بحياء، قد صاغها في عام 1905 كل من روزا لكسمبرغ وتروتسكي. والواقع أن هذه النظرية قد صاغها بارفوس وتروتسكي. واليوم، وبعد مرور عشرة أشهر يستدرك راديك نفسه ويرتئي ضرورة توبيخ بارفوس على ثورته الدائمة . ولكن الإنصاف يقتضي من راديك أن يوبخ أيضاً رفيق بارفوس، تروتسكي.
وليس صحيحاً أن الثورة الدائمة التي دحضتها ثورة 1905 قد ثبتت صحتها بالنسبة إلى المرحلة الثانية من التطور التاريخي . فمسيرة ثورة أكتوبر برمتها وتطورها بأسره قد بينا وأثبتا القصور التام لنظرية الثورة الدائمة وتنافيها التام مع المبادئ اللينينية.
ولن تتمكن لا الخطابات المعسولة ولا الدبلوماسية المتعفنة من تمويه الهوة الفائقة فاها بين نظرية الثورة الدائمة وبين اللينينية.

- 3 -
بعض خصائص تكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر


حتى نفهم تكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر، فلا بد أن نفهم على الأخص بعض خصائص هذا التكتيك البالغ الأهمية. ومما يؤكد ضرورة ذلك أن هذه الخصائص غالبا ما تنبذ جانباً في الكراسات العديدة عن تكتيك البلاشفة.
ما هذه الخصائص إذن؟
الخاصة الأولى: من يسمع تروتسكي يخيل إليه أنه لا وجود في تاريخ تهيئة أكتوبر لغير مرحلتين: مرحلة الاستطلاع والتعرف ومرحلة الانتفاضة، وأن كل ما عدا ذلك هو من اختلاف إبليس. ما تظاهرة نيسان 1917؟ إن تظاهرة نيسان، التي انعطفت إلى اليسار أكثر مما كان ينبغي، كانت نوعاً من استطلاع لتعرف حالة الجماهير المعنوية وصلاتها بالغالبية في السوفيتات . وما تظاهرة تموز 1917؟ يرى تروتسكي أن المسألة ترتد في جوهرها، هذه المرة أيضاً، إلى استطلاع جديد أوسع نطاقاً، في مرحلة جديدة وأعلى من الحركة . ولا حاجة البتة إلى القول بأن تظاهرة حزيران 1917، التي نظمت بدعوة من حزبنا، يجب أن توصف هي الأخرى من منظور تروتسكي بأنها استطلاعية .
والفرض الذي يفرض نفسه بناء على ما تقدم هو أن البلاشفة كان لهم منذ آذار 1917 جيش سياسي من العمال والفلاحين جاهز للعمل، وأنهم إذا كانوا لم يستخدموه للقيام بانتفاضة لا في نيسان ولا في حزيران ولا في تموز، وأنهم إذا لم يولوا اهتماماً إلا لمهام الاستطلاع ، فهذا فقط لأن معطيات الاستطلاع لم تقدم آنذاك إشارات مشجعة.
ولا حاجة البتة للقول بأن هذا التصور مغرق في التبسيط عن التكتيك السياسي لحزبنا لا يعني من شيء آخر غير الغلط بين التكتيك العسكري العادي وبين التكتيك الثوري للبلاشفة.
والواقع أن تلك التظاهرات كافة كانت قبل كل شيء نتيجة اندفاع الجماهير العفوي، نتيجة سخطها على الحرب، ذلك السخط الذي كان يتوق على التعبير عن نفسه في الشارع.
والواقع أن دور الحزب كان يكمن آنذاك في إعطاء الجماهير، الذي كان يعبر عن نفسه عفوياً، شكلاً واتجاها يتجاوبان مع شعارات البلاشفة الثورية.
والواقع أن البلاشفة ما كان لهم وما كان من الممكن أن يكون لهم آذار 1917 والاصطدامات الطبقية الممتدة بين نيسان وأكتوبر 1917 (وقد أنجزوا تشكيله في أكتوبر 1917). وقد شكلوه من خلال تظاهرة نيسان ومن خلال مظاهرتي حزيران وتموز، وكذلك من خلال انتخابات الدوما في الدوائر والمدن، ومن خلال النضال ضد كورنيلوف، ومن خلال الاستيلاء على السوفيتات. إن الجيش السياسي لشيء يختلف عن الجيش الحربي. ففي حين تدخل القيادة العسكرية الحرب وبين يديها جيش جاهز، يكون الحزب مضطرا إلى تكوين جيشه الخاص به أثناء القتال بالذات وأثناء المصادمات الطبقية، وبذلك بقدر ما تقتنع الجماهير نفسها، وبتجربتها الذاتية، وبصحة شعارات الحزب وبصحة سياسته.
ولا مرية في أن كل مظاهرة من المظاهرات كانت تسلط في الوقت نفسه بعض الضوء على علاقات القوى المتوارية على الأنظار، وكانت نوعا من استطلاع. ولكن الاستطلاع هنا لم يكن دافع المظاهرة، بل كانت نتيجته الطبيعية.
يقول لينين في معرض تحليله الأحداث عشية انتفاضة أكتوبر وفي معرض مقارنتها بأحداث نيسان- تموز:
إن الوضع ليختلف عما كان عليه عشية 20 و 21 نيسان و 9 حزيران و 3 تموز. فلقد كانت المسألة آنذاك مسألة غليان عفوي. كنا كحزب لا ندركه (20 نيسان) أو كنا نسعى إلى احتوائه بإعطائه شكل مظاهرة سلمية (9 حزيران و 3 تموز). فلقد كنا نعرف حق المعركة آنذاك أن السوفيتات ليست لنا بعد، وأن الفلاحين ما يزالون يؤمنون بطريق ليبر-دان-تشيرنوف، لا بالطريق البلشفي (الانتفاضة). وأن غالبية الشعب بالتالي لا يمكن أن تكون معنا، والانتفاضة من ثم سابقة لآوانها . ( رسالة إلى رفيق – المجلد 21، ص 345، الطبعة الروسية).
من الجلي الواضح أن الاستطلاع وحده ما كان ليذهب بنا بعيدا.
وبديهي أن المسألة ليست مسألة استطلاع ، وإنما مسألة:
1.
لقد اعتمد الحزب في نضاله باستمرار، وطوال مرحلة تهيئة أكتوبر، على الانطلاقة العفوية للحركة الثورية الجماهيرية.
2.
لقد ضمن لنفسه، باعتماده على هذه الانطلاقة العفوية، قيادة الحركة بلا منازع.
3.
أن قيادة الحركة هذه كانت تسهل على الحزب مهمة تشكيل جيش سياسي جماهيري استعداداً لانتفاضة أكتوبر.
4.
لم يكن هناك مفر من تؤدي هذه السياسة إلى أن تتم تهيئة أكتوبر تحت قيادة حزب واحد هو الحزب البلشفي.
5.
لقد أدت هذه التهيئة بدورها إلى تركز السلطة في أعقاب انتفاضة أكتوبر بين يدي حزب واحد هو الحزب البلشفي.
هكذا فإن هذه النقطة الأساسية في تهيئة أكتوبر هي قيادة حزب واحد هو الحزب البلشفي بلا منازع، هذه هي السمة المميزة لثورة أكتوبر، هذه هي أولى خصائص تكتيك البلاشفة إبان مرحلة تهيئة أكتوبر.
ولا يكاد يكون هناك من حاجة إلى البرهان على أن انتصار دكتاتورية البروليتاريا في شروط الامبريالية كان سيكون من مستحيلاً لولا هذه الخصيصة من خصائص تكتيك البلاشفة.
ذلك هو الوجه الإيجابي الذي تختلف به ثورة أكتوبر عن ثورة 1871 في فرنسا حيث كان يتقاسم قيادة الثورة حزبان اثنان لا يمكن أن نسمي أي منهما حزبا شيوعيا.
الخاصة الثانية: لقد تمت إذن تهيئة أكتوبر بقيادة حزب واحد هو الحزب البلشفي. و لكن كيف مارس الحزب هذه القيادة، وأي خط اتبعه ؟ لقد اتبعت هذه القيادة خط عزل الأحزاب التوفيقية بوصفها أخطر المنظمات في مرحلة إشعال فتيل الثورة، خط عزل الاشتراكيين- الثوريين والمناشفة.
ما قوام القاعدة الإستراتيجية الأساسية للينينية؟
قوامها الاعتراف بان:
1.
الأحزاب التوفيقية تشكل أخطر سند اجتماعي لأعداء الثورة في مرحلة اندلاع الثورة الوشيكة.
2.
من المستحيل الإطاحة بالعدو ( القيصرية أو البرجوازية) بدون عزل هذه الأحزاب.
3.
يجب بالتالي أن يكون هدف السهام الرئيسية في مرحلة تهيئة الثورة عزل هذه الأحزاب وفصل جماهير الشغيلة العريضة عنها.
4.
لقد كان أخطر سند اجتماعي للقيصرية في مرحلة النضال ضد القيصرية ففي مرحلة تهيئة الثورة الديمقراطية البرجوازية ( 1905-1917) الحزب الملكي الليبرالي، حزب الكاديت. لماذا؟ لأنه كان حزبا توفيقيا، حزب مصالحة بين القيصرية وغالبية الشعب، أي مجمل الطبقة الفلاحية. وطبيعي أن يكون حزبنا قد سدد آنئد ضرباته الرئيسية إلى الكاديت، لأننا لو لم نعزل حزب الكاديت لما كان في مستطاعنا الاعتماد على قطيعة بين الطبقة الفلاحية والقيصرية. وبدون هذه القطيعة ما كان ممكنا أن تعقد الآمال على انتصار الثورة. إن الكثيرين لم يفهموا آنئذ هذه الخصيصة من خصائص الإستراتيجية البلشفية واتهموا البلاشفة بالرغبة المشتطة في افتراس الكاديت وأكدوا أن النضال ضد الكاديت يتقدم في نظر البلاشفة على النضال ضد العدو الرئيسي، القيصرية. بيد أن هذه الاتهامات العارية من الصحة أزاحت النقاب عن جهل مطبق بالإستراتيجية البلشفية التي تقتضي عزل الحزب التوفيقي بهدف تسهيل الانتصار على العدو الرئيسي وتقريب موعده.
ولا يكاد يكون هناك من حاجة للبرهان على أن هيمنة البروليتاريا في الثورة الديمقراطية البرجوازية كانت ستكون مستحيلة لولا تلك الإستراتيجية.
لقد انتقل مركز ثقل القوى المتصارعة في مرحلة تهيئة أكتوبر إلى مستوى جديد فالقيصر لم يعد له وجود وحزب الكاديت تحول من قوة توفيقية إلى قوة حاكمة، قوة مهيمنة من قوى الامبريالية والصراع ما عاد يدور بين القيصرية والشعب، وإنما بين البرجوازية والبروليتاريا وفي هذه المرحلة أمسى أخطر سند اجتماعي للامبريالية يتمثل في الأحزاب الديمقراطية البرجوازية - الصغيرة، أحزاب الاشتراكيين - الثوريين والمناشفة لماذا لأن هذه الأحزاب كانت وقتئذ أحزاب توفيقية، أحزاب مصالحة بين الامبريالية والجماهير الكادحة وطبيعي أن يكون البلاشفة قد سددوا آنئد ضرباتهم الرئيسية إلى تلك الأحزاب، لأننا لو لم نعزل هذه الأخيرة لما كان في مستطاعنا الاعتماد على قطيعة بين الجماهير الكادحة والامبريالية وبدون هذه القطيعة ما كان ممكنا أن نعقد الآمال على انتصار الثورة السوفياتية إن الكثيرين لم يفهموا آنئد هذه الخصيصة من خصائص تكتيك البلاشفة، واتهموا هؤلاء الخيرين بـأنهم يكنون حقدا مشتطا تجاه الاشتراكيين - الثوريين والمناشفة وبـأنهم ينسون الهدف الرئيسي ولكن مرحلة تهيئة أكتوبر بأسرها تشير بفصاحة إلى أن البلاشفة ما أمكنهم أن يضمنوا انتصار ثورة أكتوبر إلا بفضل ذلك التكتيك، وذلك التكتيك وحسب.
إن السمة المميزة لهده المرحلة هي التغلغل الثوري المتنامي بين صفوف الجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية، وخيبة أمل هذه الجماهير بالاشتراكين – الثورين والمناشفة، وابتعادها عن هذين الحزبين، وتغير اتجاهها للانضواء المباشر تحت لواء البروليتاريا، القوة الوحيدة الثورية حتى النهاية، والوحيدة القادرة على الأخذ بيد البلاد إلى السلم. وتاريخ هذه المرحلة هو تاريخ صراع الاشتراكين - الثوريين والمناشفة من جهة، والبلاشفة من الجهة الثانية، على الجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية على الفوز بثقة هذه الجماهير. ومرحلة الائتلاف، ومرحلة كيرنسكي، ورفض الاشتراكين - الثوريين والمناشفة مصادرة أراضي كبار الملاكين العقارين، ونضال الاشتراكين الثوريين والمناشفة في سبيل الاستمرار بالحرب، وهجوم حزيران على الجبهة، وعقوبة الموت للجنود، وتمرد كوربيلوف، هذا كله هو الذي قرر مصير ذلك الصراع ولقد قرره لصالح الإستراتجية البلشفية وحدها. ولو لم يُعزل الاشتراكيون – الثوريون والمناشفة لكان من المستحيل الخلاص من الحرب. هكذا اتضح أن سياسة عزل الاشتراكيين - الثوريين والمناشفة هي وحدها السياسة الصحيحة.
إذن فالخصيصة الثانية من خصائص تكتيك البلاشفة هي عزل الحزبين المنشفي والاشتراكي – الثوري كخط هاد في مرحلة تهيئة أكتوبر.
ولا يكاد يكون هناك من حاجة للبرهان على أن تحالف الطبقة العاملة والجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية كان سيبقى معلقا في الهواء لولا تلك الخصيصة من خصائص تكتيك البلاشفة.
وانه لما له دلالته أن تروتسكي لا يقول شيئا أو لا يقول شيئا تقريبا عن هذه الخصيصة من خصائص التكتيك البلشفي في كراسته دروس أكتوبر .
الخاصية الثالثة: إن قيادة الحزب لتهيئة أكتوبر قد سارت ادن في خط عزل الحزبين الاشتراكي – الثوري والمنشفي، ذلك الخط الذي استهدف فصل جماهير العمال والفلاحين العريضة عنهما. ولكن كيف حقق الحزب عينيا هذا العزل، وبأي شكل، وتحت أي شعار؟ لقد تم هذا العزل في شكل حركة ثورية جماهيرية تأييدا للسوفييتات تحت شعار كل السلطة للسوفييتات ، عن طريق النضال من أجل تحويل السوفيتات من أجهزة تعبئة للجماهير إلى أجهزة تمرد، أجهزة سلطة، أجهزة دولة بروليتارية جديدة.
لمادا اختار البلاشفة السوفيتات على وجه التحديد رافعة تنظيمية أساسية قمينة بتسهيل عزل المناشفة والاشتراكيين – الثوريين، وقادرة على دفع الثورة البروليتارية إلى الأمام ومدعوة إلى قيادة الشغيلة التي لا يحصى لها عد إلى انتصار ديكتاتورية البروليتارية؟
ما السوفيتات؟
قال لينين منذ أيلول 1917:
تشكل السوفيتات جهاز دولة جديدا يخلق أولا قوة العمال والفلاحين المسلحة، قوة مسلحة غير منفصلة عن الشعب انفصال قوة الجيش النظامي القديم، بل مرتبطة بالشعب ارتباطا وثيقا، ومتفوقة بما لا يقاس عن الجيش القديم من وجهة النظر العسكرية، وغير قابلة لأن تحل محلها أية قوة أخرى من وجهة النظر الثورية، ويقيم هذا الجهاز ثانيا مع الجماهير مع غالبية الشعب صلة وثيقة للغاية ومتينة لا تقبل انحلالا وقابلة بمنتهى السهولة للمراقبة والتجدد إلى درجة نضيع معها وقتنا هدرا فيما لو فتشنا عن شبيه لها في جهاز الدولة القديم، وهذا الجهاز أكثر ديمقراطية بكثير ثالثا من جميع الأجهزة السابقة لأنه مكون عن طريق الانتخاب وقابلا للتجديد تبعا لمشيئة الشعب وخلو من الشكليات البيروقراطية. ويتيح المجال رابعا أمام صلة متينة بالمهن الأكثر تنوعا فيسهل بذلك تطبيق أعمق الإصلاحات وأكثرها تنوعا بدون بيروقراطية، ويؤلف خامسا شكلا تنظيميا للطليعة أي لذلك الجزء الأكثر وعيا وطاقة وتقدما من الطبقات المضطهدة من العمال والفلاحين ويشكل بالتالي جهازا تستطيع طليعة الطبقات المضطهدة بواسطته أن ترفع وتربي وتثقف وتجر في ركابها الكتلة الهائلة من تلك الطبقات التي ما تزال إلى اليوم تقف خارج الحياة السياسية وخارج التاريخ. ويفسح المجال سادسا أمام الجمع بين محاسن البرلمانية ومحاسن الديمقراطية المباشرة، أي الجمع في شخص ممثلي الشعب المنتخبين بين السلطة التشريعية وتنفيذ القوانين. وفي هذا، بالمقارنة مع البرلمانية البرجوازية تقدم كبير الأهمية تاريخيا وعالميا في طريق تطور الديمقراطية ... ولو لم تخلق العبقرية الشعبية الخلاقة التي تمتاز بها الطبقات الثورية السوفيتات، لكان قضي على الثورة البروليتارية بروسيا بأنه يستحيل قطعا على البروليتاريا أن تحافظ على السلطة في ظل الجهاز القديم ومن غير الممكن خلق جهاز جديد بين عشية وضحاها . ( هل سيحتفظ البلاشفة بالسلطة ، المجلد 21، الصفحة 258 -259 الطبعة الروسية).
لهذا وقع اختيار البلاشفة على السوفيتات بوصفها الحلقة التنظيمية الأساسية القمينة بتسهيل تنظيم ثورة أكتوبر وإنشاء جهاز جديد وقوي لدولة بروليتارية.
لقد مر شعار كل السلطة للسوفيتات في تطوره الداخلي بمرحلتين اثنتين:
المرحلة الأولى حتى هزيمة البلاشفة في شهر تموز في فترة ثنائية السلطة، والثانية تبدأ مع هزيمة عصيان كرونيلوف.
في المرحلة الأولى كان هذا الشعار يعني القطيعة مع كتلة المناشفة والاشتراكيين الثوريين وبين الكاديت، وتشكيل حكومة سوفياتية مؤلفة من المناشفة والاشتراكيين - الثوريين (لن السوفيتات كانت آنئذ اشتراكية - ثورية ومنشفية) وحرية الدعاية والتحريض للمعارضة (أي للبلاشفة ) وحرية صراع الأحزاب داخل السوفيتات، ذلك الصراع الذي كان لابد أن يتيح للبلاشفة السيطرة على السوفيتات وتعديل تركيب الحكومة السوفياتية في مرحلة سلمية من تطور الثورة.
ولم تكن هذه الخطة بالبداهة تعني ديكتاتورية البروليتاريا. ولكن لا مراء في أنها كانت تسهل تهيئة الشروط الضرورية لإقامة الديكتاتورية، بأنها إذا حملت الاشتراكيين - الثوريين والمناشفة إلى السلطة وأرغمتهم على وضع برنامجهم المناهض للثورة موضع التطبيق عجلت بإزاحة النقاب عن الطبيعة الحقيقية لهذين الحزبين، وعجلت بانعزالهما وانفصالهما عن الجماهير ولكن هزيمة البلاشفة في تموز أوقفت هذا التطور، إذ جعلت الغلبة لثورة الجنرالات والكاديت المضادة ورمت بالاشتراكيين الثوريين والمناشفة بين دراعي هذه الأخيرة. لقد أرغم هذا الظرف الحزب على أن يسحب مؤقتا شعار كل السلطة للسوفيتات وعلى أن ينتظر انطلاقة جديدة حتى يشهره ثانية.
وجاءت هزيمة عصيان كرونلوف لتفتح المرحلة الثانية، وأطلق من جديد شعار كل السلطة للسوفيتات . ولكن هذا الشعار ما عادت له في هذه المرحلة الدلالة التي كانت له في المرحلة الأولى. ففي هذه المرحلة الجديدة كان ذلك الشعار يعني القطيعة الكاملة مع الامبريالية وانتقال السلطة إلى البلاشفة مادامت السوفيتات قد أمست في غالبيتها بلشفية. في هذه المرحلة الجديد كان ذلك الشعار يعني اقتراب الثورة المباشرة من ديكتاتورية البروليتاريا عن طريق الانتفاضة علاوة على ذلك كان يعني تنظيم ديكتاتورية البروليتاريا وتأسيسها في دولة.
إن ما أضفى على تكتيك تحويل السوفيتات إلى أجهزة لسلطة الدولة أهمية لا تقدر بثمن هو انه سلخ عن الامبريالية جماهير الشغيلة التي لا يحصى لها عد وفضح الحزبين المنشفي والاشتراكيين - الثوري بوصفهما أداة الامبريالية وقاد تلك الجماهير إلى ديكتاتورية البروليتاريا بطريق مباشر إن جاز التعبير.
إذن فالخاصة الثالثة لتكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر هي سياسة تحويل السوفيتات إلى أجهزة لسطلة الدولة كأهم شرط من شروط عزل الأحزاب التوفيقية وانتصار ديكتاتورية البروليتاريا.
الخاصة الرابعة: لن تكتمل اللوحة ما لم نولي عنايتنا بمسألة معرفة كيفية وعلة نجاح البلاشفة في تحويل شعارات حزبهم إلى شعارات جماهيرية عريضة، إلى شعارات تدفع بالثورة إلى الأمام وكيفية وعلة نجاحهم في إقناع غالبية الشعب لا غالبية الطليعة وحدها ولا غالبية الطبقة وحدها بصحة سياستهم.
الحق انه لا يكفي أن تكون شعارات الحزب صحيحة حتى تنتصر الثورة، إذا كانت هذه الثورة شعبية حقا إذا كانت تضم جماهير غفيرة. فنجاح الثورة يتطلب أيضا شرطا آخر لا غنى عنه، أعني: أن تقتنع الجماهير بتجربتها الذاتية بصحة تلك الشعارات آنئذ فقط تصبح شعارات الحزب شعارات الجماهير نفسها. آنئذ فقط تصبح الثورة ثورة شعبية فعلا. ومن خصائص تكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر أنه عرف كيف يحدد تحديدا صحيحا الطرق والمنعطفات التي لا مندوحة من أن تقود الجماهير إلى شعارات الحزب، إلى عتبة الثورة بالذات إن جاز التعبير، إذ يمنحها القدرة على أن تحس وتتحقق وتتعرف بتجربتها الذاتية صحة هذه الشعارات. وبعبارة أخرى، إن من خصائص التكتيك البلشفي انه لا يخلط بين هذين الأمرين: قيادة الحزب وقيادة الجماهير، وانه يرى بوضوح الفارق بين القيادة التي من النوع الأول والقيادة من النوع الثاني، وانه يمثل لا علم قيادة الحزب فقط بل أيضا علم قيادة الجماهير الشغيلة التي لا يحصى لها عد.
إن تجربة دعوة الجمعية التأسيسية وحلها لمثال ساطع على الكيفية التي تتجلى بها هذه الخصيصة من خصائص التكتيك البلشفي.
فمعروف أن البلاشفة صاغوا شعار جمهورية السوفيتات منذ نيسان 1917 ومعروف أن الجمعية التأسيسية برلمان برجوازي يتناقض صارخ التناقض مع مبادئ جمهورية السوفيتات. فكيف أمكن للبلاشفة أن يطالبوا الحكومة المؤقتة بدعوة الجمعية التأسيسية فورا في الوقت نفسه الذي كانوا يتقدمون فيه نحو جمهورية السوفيتات؟ كيف أمكن للبلاشفة لا أن يشاركوا في الانتخابات فحسب بل أن يتولوا دعوة الجمعية التأسيسية للانعقاد، وكيف أمكن للبلاشفة أن يقبلوا قبل شهر من الانتفاضة، وفي لحظة الانتقال من النظام القديم إلى الجديد بإمكانية الجمع المؤقت بين جمهورية السوفيتات والجمعية التأسيسية؟
لقد أمكن ذلك لأن:
1.
فكرة الجمعية التأسيسية كانت من أكثر الأفكار شعبية لدى الجماهير الغفيرة من السكان.
2.
شعار دعوة الجمعية التأسيسية للانعقاد فورا كان يتيح إزاحة النقاب بسهولة اكبر عن طبيعة الحكومة المؤقتة المناهضة للثورة.
3.
لم يكن هناك بد حتى تفقد فكرة الجمعية التأسيسية حظوتها لدى الجماهير الشعبية، من إيصال هذه الجماهير إلى عتبة الجمعية التأسيسية مع مطالبها بخصوص الأرض والسلم وسلطة السوفيتات، ومن وضعها وجها لوجه أمام الجمعية التأسيسية الفعلية، الحية.
4.
كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لتمكين الجماهير من الاقتناع بسهولة اكبر، وبتجربتها الذاتية، وبطبيعة الجمعية التأسيسية المناهضة للثورة وبضرورة حلها.
5.
كان هذا كله يفترض بالبداهة إمكانية الجمع المؤقت بين جمهورية السوفيتات والجمعية التأسيسية كوسيلة من الوسائل القمينة بتصفية هذه الأخيرة.
6.
لم يكن مثل هذا الجمع يعني غير تبعية الجمعية التأسيسية للسوفيتات وتحولها إلى استطالة للسوفيتات وموتها بلا الم، شريطة أن تنتقل السلطة كلها إلى السوفيتات.
ولا تكاد يكون هناك من حاجة للبرهان على أن حل الجمعية التأسيسية ما كان ليكون بتلك السهولة وعلى أن عمل الاشتراكيين الثوريين والمناشفة فيما بعد تحت شعار كل السلطة للجمعية التأسيسية ما كان لينهار بمثل تلك القرقعة لولا سياسة البلاشفة تلك.
قال لينين:
لقد شاركنا في انتخابات برلمان روسيا البرجوازي، في انتخابات الجمعية التأسيسية، في أيلول - تشرين الثاني 1917. فهل كان تكتيكنا صائبا أم لم يكن؟.. ألم يكن من حقنا، نحن البلاشفة الروس، في أيلول - تشرين الثاني 1917، لأن نقدر، أكثر من جميع شيوعيي الغرب، إن البرلمانية قد فات أوانها سياسيا في روسيا؟ لقد كان ذلك من حقنا بالبداهة، لأن المسألة من مسألة معرفة ما إذا كانت البرجوازية قد وجدت منذ عهد بعيد أو قريب، وإنما هي مسألة معرفة ما إذا كانت الجماهير الكادحة الغفيرة على استعداد ( إيديولوجيا وسياسيا وعمليا) لتبني النظام السوفياتي ولحل البرلمان الديمقراطي البرجوازي أو السماح بحله. وإنها لحقيقة تاريخية واقعة لا يرقى إليها شك ولا تحتمل نقاشا أن الطبقة العاملة في المدن وجنود روسيا وفلاحيها كانوا على استعداد في أيلول – تشرين أول1917، بحكم ظروف خاصة محددة، لتبني النظام السوفياتي ولحل أكثر البرلمانات البرجوازية الديمقراطية. ومع ذلك لم يقاطع البلاشفة الجمعية التأسيسية، بل شاركوا على العكس في الانتخابات قبل وبعد استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية . (مرض الطفولة - المجلد 25، ص 201 -202 الطبعة الروسية).
لماذا لم يقاطعوا الجمعية التأسيسية؟ إن السبب كما يقول لينين:
إن المشاركة في برلمان ديموقراطي بورجوازي، حتى بعد بضعة أسابيع من انتصار الجمهورية السوفياتية، حتى بعد هذا الانتصار ما كانت تلحق الضرر بالبروليتاريا الثورية، لا كانت تسمح لها بأن تبين بسهولة أكبر للجماهير المتأخرة لماذا تستأهل هذه البرلمانات الحل، وتسهل التصفية السياسية للبرلمانية البرجوازية . (المصدر نفسه).
وانه لما له دلالته أن تروتسكي لا يفهم هذه الخصيصة من خصائص التكتيك البلشفي، ويسخر من نظرية الجمع بين الجمعية التأسيسية والسوفيتات وكأنها نظرية من نظريات هليفردينغ.
إنه لا يفهم أن القبول بمثل هذا الجمع، بالإضافة إلى شعار الانتفاضة وأرجحية انتصار السوفيتات والقبول بدعوة الجمعية التأسيسية هو التكتيك الثوري الوحيد الذي لا يمت بصلة إلى تكتيك هيلفردينغ الذي ينزع إلى تحويل السوفيتات إلى استطالة للجمعية التأسيسية. ولا يفهم أن غلطة بعض الرفاق في هذه المسألة لا تمنحه الحق في التهجم على موقف لينين والحزب الصحيح مطلق الصحة من إمكانية القبول، في بعض الشروط، بـ نمط مركب من الدولة ( لينين: رسالة إلى الرفاق ، المجلد21، ص 338، الطبعة الروسية).
انه لا يفهم أن البلاشفة، لولا سياستهم الخاصة التي انتهجوها تجاه الجمعية التأسيسية، لما افلحوا في كسب جماهير الشعب الغفيرة إلى جانبهم، وأنهم لولا كسب هذه الجماهير لما أمكنهم أن يحولوا انتفاضة أكتوبر إلى ثورة شعبية عميقة. وانه لما يسترعي الاهتمام أن تروتسكي يسخر حتى من كلمات الشعب الديموقراطية الثورية إلخ، تلك الكلمات التي نصادفها في كتابات البلاشفة والتي يرتأي أنها لا تليق بماركسي.
ولا مراء في أن تروتسكي ينسى إن لينين، ذلك الماركسي الذي لا يمكن أن ينازعه منازع. قد كتب حتى في أيلول 1917، أي قبل شهر واحد من انتصار الدكتاتورية، عن ضرورة انتقال السلطة كلها فورا إلى الديمقراطية الثورية التي تقودها البروليتاريا الثورية ( الماركسية والانتفاضة ، المجلد 21، الصفحة 198).
لا مراء في أن تروتسكي ينسى أن لينين، ذلك الماركسي الذي لا يمكن أن ينازعه منازع، قد كتب بالحرف الواحد السطور التالية في معرض استشهاده برسالة ماركس المعروفة إلى كوغلمان نيسان 1871 التي جاء فيها قوله أن هدم جهاز الدولة البيروقراطي والعسكري هو الشرط المسبق لكل ثورة شعبية حقا في البر الأوروبي:
عن ما يستأهل انتباها خاصا هو ملاحظة ماركس العميقة تلك القائلة أن تدمير آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية هو الشرط المسبق لكل ثورة شعبية حقا . وفكرة الثورة الشعبية هذه قد تبدو مدهشة على لسان ماركس، ربما كان في مستطاع تلامذة بليخانوف في روسيا وكذلك المناشفة، تلامذة ستروفه أولئك الذين يرغبون في أن يعدوا ماركسيين، أن يصفوا مثل هذا التعبير لدى ماركس بأنه زلــة لسان . فلقد مسخوا الماركسية إلى مذهب ليبرالي بالغ التفاهة حتى لم يعد من وجود لشيء في أنظارهم خارج هذا الطباق: الثورة البرجوازية والثورة البروليتارية. وعلاوة على ذلك فإنهم يفهمون هذا الطباق فهما مغرقا في السكولائية... ففي البر الأوروبي في 1871 لم تكن البروليتاريا تؤلف في أي قطر غالبية الشعب. فما كان ممكنا أن تكون الثورة شعبية وان تجر حقا الغالبية إلى الحركة إلا إذا ضمت البروليتاريا والطبقة الفلاحية معا. ولقد كان الشعب يتألف بالضبط من هاتين الطبقتين. وهاتين الطبقتان كان يوحدهما كونهما مضطهدتين، مسحوقتين، مستغلتين من قبل آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية . وكانت مصلحة الشعب، مصلحة غالبيته. ومصلحة العمال وغالبية الفلاحين، تقتضي تحطيم تلك الآلة وهدمها ذلكم هو الشرط المسبق للتحالف الحر بين الفلاحين الفقراء والبروليتاريين. والحال انه لا ديمقراطية متينة ولا إمكانية للتحويل الاشتراكي بدون ذلك التحالف ( الدولة والثورة ، المجلد21، ص 390-392).
إن كلمات لينين هذه لا يجوز لكائن من كان أن ينساها.
إذن فالخاصة الرابعة لتكتيك البلاشفة في مرحلة تهيئة أكتوبر هي القدرة على إقناع الجماهير بتجربتها الذاتية بصحة شعارات الحزب، عن طريق إيصال هذه الجماهير إلى المواقع الثورية كأهم شرط من شروط كسب الحزب لملايين الشغيلة.
وإني لأعتقد أن ما تقدم يكفي كل الكفاية لفهم السمات المميزة لذلك التكتيك.
كانون الثاني سنة 1926
ج .ف. ستالين
يتبع ... 

No comments:

Post a Comment